Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

يا أبت افعل ما تؤمر

قال شوقي رحمه الله:

ليس اليتيم من انتهى أبواه من         همّ الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقـى لـــــــــه       أمّا تخلت أو أبا مشغولا

تذكرت البيتين الشعريين لأمير الشعراء في خضم متابعتي الإعلامية في هذا الأسبوع لاحتفالات اليوم العالمي للأسرة، وعلمت كما يعلم الجميع أن الطفل هو عماد الأسرة وأسها وأساسها، فأحببت أن أدلي برأيي في هذا الاحتفال بمنهجية خاصة، وأنوب عن ذلكم الطفل “اليتيم” لأوجه باسمه رسالة مباشرة إلى أبيه الذي غيبته مشاغله الكثيرة المتعددة، حتى إنه نسي نفسه في خضم متاهات الحياة فأنسته واجباته تجاه فلذات كبده.

وهذا نص الرسالة:

أبي العزيز “الحاضر الغائب”: إني اشتقت إليك..

قد تتعجب من مراسلتي إياك وأنت أبى، ومكاتبتك وأنت معي. فلا أنت بالأب الغائب المهاجر إلى ديار الغربة، بعيدا عن الأعين والأهل والأقارب والأحبة؛ ولا أنت بالأب المقيم في أسرته وبين أبنائه، يتمتعون بصحبته، ويسعدون بتواجده!  فحسك بيننا صباح مساء، وطيفك حاضر معنا متى تشاء؛ لكن يا أبي كثرت أشغالك، وطال غيابك، وكدنا نفتقد أثرك!!

انتظرتُ طويلا رجوعك إلى ما عهدتُ فيك، وطال انتظاري حتى فقدت الأمل في عودتك..

شملتني يا أبي بعطفك ورعايتك وأنا صغير، وكلما كبرتْ سني إلا وكبرتْ معها رقعة بعدك وغيابك عني. وكلما اشتد عودي وأحسست بالحاجة إليك إلا واشتدت مشاغلك وتخطفتك برامج أنشطتك..!

فلما عرفتُ غيبتك، تأسفتُ على ما عدمته من مرافقتك ومصاحبتك..

وما أبديتُ شوقا إلا بعدما أبديتَ بُعدا وهجرا.. فأنا يا أبي لم أحظ بالكثير منك فيمتعني، ولا أرضى بالقليل منك فيقنعني.. فشوقي إليك غالب لصبري، وشغفي بك غامر لصدري، وودي إليك مشتمل على قلبي، وإحساسي بك نابع من طفولتي.. وكيف لا أكون كذلك وقد أريتني منك ما قرت به عيني وطيب خاطري.. فأنت مَثلي وقدوتي، وأنت نفسي التي بين جنبي، ويدي المحامية عني، وقوتي التي تنهض بها همتي.. فلا تعجب يا أبي إن كان شوقي إليك زائد على قدرتي، وصبري عن غيابك قاعد عن نصرتي، وصبابتي نحوك غالبة على نفسي..

ولقد اعتصمتُ يا أبي بالصبر فلم يمنع، ولجأت إليه فلم ينفع.. غير أننا نحفظ لكم أيها الآباء في صدورنا وُدا حفيا، وعهدا وفيا، وحبا خفيا.. فهل أنتم لما نحس به مدركون؟ وهل أنتم لما نشعر به تجاهكم عارفون؟!

ألستَ أنت يا أبي من علمني كيف ارتبط نبي الله نوح، عليه وعلى نبينا أزكى الصلاة والسلام، بابنه الذي امتنع عن الاستجابة لدعوته.. فلما أنزل الله غضبه، نادى نوح ربه فقال “رب إن ابني من أهلي”.. فتحركت عاطفته الأبوية علها تكون شافعة لابنه من العقاب.. فلم ينس الأب ابنه في أحلك الأوقات، رغم اختلاف المعتقدات، ولم يغفل عنه رغم تمسكه بالمعصية وتعرضه للبوار والآفات!!

ألست أنت يا أبي من علمني كيف تأثر نبي الله يعقوب بغياب ابنه نبي الله يوسف، عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام،  وتأسف على ذلك كثيرا، “وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم”.. فلم تغن عنه كثرة أبنائه على أن يتولى عنهم جميعا ويبث حزنه وشكواه لخالقه ومولاه، فهو الوحيد جلت قدرته العالم بالفاجعة التي ألمت به في فقدانه قرة عينه ونور بصره!!

وإذا كان هذا حال الآباء مع أبنائهم في العصور الخوالي، فإن عصرنا هذا شاهد على حال “الأبناء اليتامى” مع آبائهم في الشهور والأيام والليالي..!!

 أبي العزيز “الغائب”: إني أعاتبك..

قد تتعجب مرة أخرى وتتساءل: هل الابن يعاتب الأب؟!

أقول: نعم، وكيف لا يعاتبه ابنه الذي لا ينظر إلى العلاقة التي بينهما على أنها علاقة دم وقرابة ونفقة وحالة مدنية فقط!! بل ينظر إلى هذه العلاقة نظرة أبعد من هذا بكثير: علاقة خاصة أوصى بها رب العالمين، وحث عليها النبي الأمين.

إني أعاتبك يا أبي لأنك في نظري أبا متميزا، فأنا أعلم أن غيابك عني في كثير من الأحيان أمر فوق إرادتك، وأعلم أن خروجك من بيتك لا يكون إلا في معروف أمرك به دينك، وهذا لم يقلل أبدا من شأنك في نظري، بل زادك رفعة وسموا وقدرا وعلوا..

بيد أن الذي أعاتبه عليك يا أبي هو بعض نسيانك لي في زحمة أشغالك واهتماماتك، وإغفالك لإدراج اسمي في مواعيد مذكراتك، حتى كدت أشعر بإحساس اليتم في حياتك!!

ولولا حسن ظني فيك، وما لك في نفسي من أثر حسن خفي وجليّ، ولي فيك من أمل وفيّ، لما عانيتُ فيك ما أعاني، ولما قاسيتُ فيك ما أقاسي، وما لاقيتُ في الصبر عليك ما ألاقي.. فإنك حرمتني بغيابك عطفك وحنانك، ومنعتني بانشغالاتك أبوتك وصداقتك..!

كم من ليلة يا أبي انتظرتك فيها على فراش نومك حتى تقر عيني بك، وأظفر بصحبتك، لكن تأخرك في الحضور حرمني من معانقتك والسلام عليك..! حتى إذا صحوتُ من كابوس مزعج، رأيتُ بصيصا من النور في غرفة نومك، فطرتُ فرحا للقياك وشوقا لتقبيلك، فارتد إلي بصري خائبا، ولم يكن إحساسي صائبا!.. إذ لم أجد سوى أمي الحبيبة التي تهدهد أخي الصغير.. فلما أحستْ بمقدمي، رفعتْ رأسها ونظرتْ إلي نظرة عرفتُ من خلالها أنها تعاني ما أعانيه، وتكابد ما أكابده، وتغالب ما أغالبه..!!  فالمسكينة وإن كانت تلجم لسانها عن الشكوى، فإني قرأت في عينيها وتقاسيم وجهها حزنا دفينا وألما كبيرا.. كأن أمر غيابك عنها يا أبي ليس لها فيه حيلة نافذة، ولا غلبة يد ناصرة، ولا لها منه منعة عاصمة!! فما بقي لها إلا أن تشكوك منك إليك، أو تحاكمك إلى نفسك.. ولكن من يضمن لها أنها ستجد مُشتكى إليك؟! أو يضمن لها عدم جورك عليها في حكمك؟!

أبي العزيز: إنني في انتظارك..

إذا كنتَ قد عجبتَ مني في المرتين السابقتين، فقد جاء دوري لأعجب منك ومن تصرفات كثير من الآباء أمثالك في زماننا العجيب هذا..!

أتعجب من أمركم أيها الآباء أصحاب الشغل الشاغل.. فطالما دعوتم الله سبحانه أن يهب لكم من أزواجكم وذرياتكم ما تقر به أعينكم، ويبهج نفوسكم، ويغمر بالفرحة صدوركم.. فلما استجيبت دعوتكم، وتحققت أغلى أمانيكم، نسيتموها بعد حين من الدهر في بيوتاتكم..! وتركتم مهجة أفئدتكم لعوادي الزمن تنخرها نخرا، ولوسائل الإعلام تهدمها هدما، ولآداب رخيصة في شوارعنا وحاراتنا تعصف بها عصفا، ولوسواس الجنة والناس تكيد لها كيدا..!!

 حتى إذا انقضت الشهور والأعوام، وألقت بكم الأيام للأيام، جنيتم ثمار غفلتكم ونسيانكم وغيابكم مُرّة كالعلقم، وعضيتم أناملكم من الأسف والندم.. وتمنيتم لو أنكم استقبلتم من أيامكم ولياليكم ما استدبرتم، لشكرتم ربكم على ما أنعم به عليكم، ولرعيتم ـ حق الرعاية ـ نعمة الولد التي أسبغها عليكم..! لكن هيهات هيهات، هل يعيد الندم والأسف ما عفا عنه الدهر والزمن، ومرت عليه الآفات والمحن؟!!

لقد آن الأوان يا أبي كي أعلن الحقيقة أمامك وأصارحك بها: إنني أحتاجك اليوم قبل الغد.. إنني أحتاجك قبل فوات الأوان.. أحتاج عطفك وبرك.. أحتاج حنانك وأبوتك.. أحتاج مساعدتك ومشورتك.. احتاج آراءك ونصائحك.. احتاج ضحكتك وابتسامتك.. أحتاج جدك ولعبك.. أحتاج مسابقتك وملاعبتك.. أحتاج قصصك وحكاياتك.. أحتاج أمنك وحمايتك.. أحتاج مثَلك وسيرتك وقدوتك.. أحتاج مقاسمة أفراحك وأتراحك.. أحتاج طيفك وخيالك..أحتاج وأحتاج وأحتاج.. وسأظل أحتاج ما دمتَ أنت أبي وأنا ابنك، وهذا قدري وقدرك..

فهلا منحتني بعضا من وقتك يا أبي؟ وهلا وهبتني جزءً من اهتمامك بي يا أبي؟ وهلا أوليتني بعض عطفك يا أبي؟ وهلا جعلتني من أولوياتك يا أبي؟ وهلا أحسستني بك يا أبي؟ وهلا شعرتَ بأحاسيسي الطفولية تجاهك يا أبي؟ وهلا تذكرتَ أن لك أسرة تحبك يا أبي؟ وهلا خففتَ من غيابك الكثير يا أبي؟ وهلا عدتَ باكرا حتى تقر عيني بك يا أبي!..

يا أبي العزيز، إني اشتقت إليك، فعد إلي كما كنتَ قبل أن تغيب عني..

عد إلي قبل أن تفتقدني فلا تجدني..وعد إلي فقد أوشكتَ أن تيتمني..

يا أبت افعل ما تؤمر.. ستجدني إن شاء الله في انتظارك..

التعليقات

  1. أحمد زريولي

    لقد وصلتني رسالتك أيها الإبن العزيز، وقرأتها بكل جوارحي، فوجدتها في معانيها عميقة، وفي ألفاظها بليغة، وفي غاياتها هادفة.
    تحمل من الحب أجمله، ومن العتاب ألطفه، ومن التنبيه أنبله، فلم أجد إلا أن أبللها بدموع حارة جعلتني أحس بكل ما ذكرت، فقد كشفت عن جراح غائرة تبدو في غالب الأحيان ملتئمة وما هي بملتئمة.
    فما أحوج كل أب إلى قراءتها وإلى تدبرها وإلى العمل بخلاصتها.
    فحفظك الله ورعاك، وسدد قلمك ورضي عنك.
    أحمد زريولي

  2. خالد رابح

    لقد تُهت في وجداناتي وأنا أقرأ هذا المقال المليء بالأحاسيس الفياضة التي أشعرتني بالأبوة رغم أنني في هذه اللحظة لم أذق طعم هذه العاطفة، وإنه لإحساس غريب يراودني وأنا أقرأ هذا المقال، فنادرا ما أجد مثل هذه المقالة/الرسالة والتي جاءت بطريقة مشفرة، يُفهم من خلالها ضرورة ربط العلاقة بين الأبوة والبنوة لمد جسر الألفة والحنان فيما بينهما فلا مال ولا أي شيء آخر سيعوض هذه العلاقة الربانية التي غالبا ما نجدها في آيات قرآننا المجيد وكذا في أحاديث سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- تدعونا وتحثنا إلى وجوب القيام بجميع مسؤلياتنا اتجاه الآباء وأيضا اتجاه الأبناء؛ لأن هناك حقوق وواجبات لكل طرف على الطرف الآخر..

    فالشكر الجزيل موصول إلى الأستاذ القدير مولاي مصطفى الهند وزادك الله حرصا على حرص، وأن يرزقك برسائل أخرى تفيدنا بها وتحرك وجداناتنا التي افتقدناها في زماننا هذا كما – أرجو من الله العلي القدير أن يحرص الرابطة المحمدية للعلماء بعينه التي لا تنام كي تساير عملها في أحسن الظروف…
    والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

  3. سمية شكروني

    يسم الله الرحمن الرحيم
    والصلاة على أشرف المرسلين
    الشكر كل الشكر لصاحب هذا المقال الرائع، لقد وضعت أصبعك على الجرح، وأثرت موضوعا مهما، بل غاية في الأهمية. موضوع الكثير منا كآباء وكأمهات غافل عنه رغم خطورته ورغم الانعكاسات الكبيرة التي ممكن أن تترتب عليه في المستقبل والتي أضحينا نلمسها مؤخرا على أبناء هذه الأمة من خلال تلك الظواهر الغريبة والشاذة الدخيلة على مجتمعاتنا. المتمثلة بالخصوص في كثرة وشدة عقوق الوالدين الذي أصبح يصل في بعض الأحيان إلى قتل أحدهما، اتساع الفجوة بين الجيلين، قسوة الأبناء على الآباء، …ايداعهم في دور العجزة …..إلخ

    جزاك الله خير الجزاء على تذكيرنا بأدوارنا الرئيسية وواجباتنا اتجاه أبناءنا مصداقا لقوله صلوات الله عليه، مربي الأجيال، قدوتنا جميعا "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"
    لقد وجهت لنا جميعا، برسالتك هاته، ضربة قوية وفي الصميم. فعندما قرأتها، أحسست وكأن أبنائي يعاتبونني، صدق الله حين قال في الآية الكريمة: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ} [سورة الذاريات: 55]
    أعد صاحب الرسالة أن أقدم، باسم كل الآباء والأمهات، الاعتذار لأبنائنا جميعا وأفسر الأسباب التي مهما كانت منطقية فهي لا تعفينا من مسؤوليتنا اتجاه فلذات أكبادنا والنعمة التي أنعم الله علينا واصطفانا من دون آخرين لينعم بها علينا، وزينة حياتنا مصداقا لقوله تعالى: {المال والبنون زينه الحياه الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً} [سورة الكهف، الآية: 46].
    والسلام عليكم

  4. نوال الزاكي

    أردت في البداية ان أحيي الدكتور مولاي مصطفى الهند على هذا الموضوع الذي يحمل حكمة بالغة في الأهمية.

    واقع اليتم التربوي الذي يعيشه كثير من أبنائنا اليوم لا يحتاج إلى جهد كبير؛ فصفحة الواقع تحكي شيئاً كثيراً من التردي الخُلُقي والفشل التربوي داخل البيت الذي يعيشه الأبناء، وخاصة في أوقات الفراغ كأوقات الامتنحانات والعطل.
    إننا لا نطلب من الرجل ولا من المرأة أن يتركوا أشغالهم التي يطلبون منها لقمة العيش، لكننا نقول لهم: إن فترة الغياب الطويل عن الأولاد لها أثر كبير. ولذا؛ كان من الضـروري على الزوجين تخصيص أوقات كافية للجلوس مع أبنائـهم، واصـطحابهم، وحل مشكلاتهم، وإشراكهم معهم في الحياة…

أرسل تعليق