Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

تعليق واحد

هوادي التعرّف (8)

     نشأ علم التصوف، كتجربة روحية، على أيدي علماءَ عاملين حفظَ الله بهم هذا الدين، ووضعوا له مبادئ وقواعد دقيقة، وضوابط وشروط صارمة، شأنه شأن بقية العلوم الشرعية سواء بسواء. ومن بين الذين ألّفوا في علم التصوف ومبادئه ومعارفه: العلامة الفقيه عبد الواحد بن عاشر الأندلسي الفاسي (990-1040هـ)، وهو من علماء وفقهاء القرويين، ويُعدُّ كتابه المنظوم “مبادئ التصّوف وهوادي التعرّف” مرجعا مُهِمّاً عند أهل السلوك، حيث اشتهر وعُرف به داخل المغرب وخارجه، وتلقته الأمة بالقبول، واعتنى به الناس حفظا وشرحا وتعليقا وختما.

     وقد حرص ابن عاشر بإجماع علماء المغرب عموما على تحصيل علم التصوف على “طريقة الجنيد السالــك”، فألزموا أنفسهم وألزموا غيرهم به، حيث جعلوه عندهم من الثوابت التي تمتزج فيها أعمال الجوارح بأعمال القلوب، قال رحمه الله:

          وبعد فالعـــون من الله المجيــد          في نظم أبيـــات للأمــي تفيـد

          في عقـد الأشعري وفقه مالك          وفي طريقـــة الجنيد السـالـك

     وإذا ألزم بها الأمي، فالعلماء بها ألزم، فافهم.

     وفي ما يلي شرحٌ مختصرٌ لمنظومة “مبادئ التصّوف وهوادي التعرّف” لَعلَّهُ يكون للقلوب دواء، وللعقول اهتداء. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

      توطئة (تتمة)
 

علماء القرويين وسلوك طريق التصوف

       من المعلوم بأن السلوك الصوفي تراث أصيل في ديارنا، اعتمده عظماء العلماء، وانضمّ إلى زمرة أهله فحول من الفقهاء، كما حَظي التصوف بالعناية والرعاية وبوافر التقدير من طرف علماء الأمة سلفهم وخلفهم، وعلى رأسهم علماء وفقهاء أعرق جامعة في التاريخ وهي جامعة القرويين 245هـ، والذين وضعوا التصوف كثابت من ثوابت الهوية الدينية المغربية. ويشهد التاريخ بأن الفقهاء والعلماء المغاربة كانوا صوفية وصلحاء، جمعوا بين الشريعة والحقيقة في توازن وانسجام، وتكامل والتحام.

       وقد كان فقهاء وعلماء القرويين يهتمون بالتصوف ممارسة وتدريسا منذ قرون؛ قال العلاّمة محمد المنتصر بالله الكتاني: “القرويين منذ أسست طيلة أحد عشر قرنا، ولسنوات خلت، كان يدرس فيها جميع العلوم الإسلامية، من قرآن، وتفسير، وحديث، وفقه، وأصول، وتصوف…”[1]، وقال محمد المنوني: “كان جامع القرويين وفروعه مراكز لنشر العلوم التالية: تفسير القرآن الكريم، التجويد، القراءات، الرسم، الحديث الشريف، علوم الحديث، الفقه المالكي بسائر فروعه، أصول الفقه، الكلام، التصوف”[2].

       ومن أجل صيانة نظرة التقدير إلى التصوف، وحتى لا يضيع حسن الاعتقاد فيه بفعل تيارات التقليل من شأنه والتشكيك في منهاجه والطعن في وسائله، نسوق هنا نماذج لعلماء وفقهاء القرويين الأمجاد الذين تحققوا بالجمع بين العلوم الشرعية وسلوك طريق التصوف. ويُعتبر انضوائهم تحت لواء التصوف حِصنا حصينا أمام كل أشكال التشكيك والمطاعن؛ فالوقوف على ما كان عليه علماء هذه الأمة الأفذاذ من أهل القرويين وغيرها من البلاد، لا شك ينفي ارتياب المرتابين وجحود الجاحدين. ونقتصر على ذكر ما به الحاجة وتقوم به الحُجّة؛ كان من هؤلاء الرجال الأفذاذ:

       •  محمد ابن عباد الرندي (تـ 792هـ): الإمام الأديب الصوفي العارف، شارح حكم ابن عطاء الله السكندري في التصوف…

       •  أحمد الحبّاك (804-870هـ): “العلامة الأديب الشاعر الصوفي، الفقيه”[3].

       •  سيدي الحسن الدراوي الهداجي (تـ 1006هـ): “الشيخ الأستاذ العلامة، الفقيه النحوي المشارك الفهامة، الولي الصالح…، العارف بالله تعالى.. كان يقرئ بجامع القرويين يوما، وعرض في المجلس ذكر كرامات الأولياء…”[4].

       •  يعقوب الحلفاوي: “العلامة المتصوف، من رجال القرن التاسع”[5].

       •  العلامة الفقيه عبد الواحد بن عاشر (تـ 1040هـ): “أخذ طريق التصوف عن العالم العارف الشيخ سيدي محمد بن أحمد التجيبي (تـ 1022هـ)… وعلى يده فُتِحَ عليه بسعة العلم والعمل”[6].

       •  الفقيه سيدي علي بن منصور الزموري (تـ 1107هـ)، قال عنه صاحب سلوة الأنفاس: “الشيخ الفقيه، العالم العلامة النبيه، الصوفي المحدث أبو الحسن سيدي علي بن منصور الزموري الفاسي. كان له درس بالقرويين…”[7].

       •  العلامة المقرئ سيدي عبد الله بن محمد بن يخلف (تـ 1162هـ): “كان رحمه الله من الأئمة المعتمدين في فن القراءات: مرجوعا إليه في المقاري السبعة فما فوقها إلى العشر. وأخذها عنه خلائق من فاس وغيرها، وصُدِّرَ لذلك بمسجد القرويين. أخد طريقة التصوف عن الشيخ العارف بالله سيدي محمد ابن الفقيه…”[8].

       •  الإمام سيدي محمد بن عبد السلام بناني (تـ 1163هـ)، جاء في التعريف به: “الشيخ الفقيه الإمام، العلامة المشارك الهمام، الدراكة المحقق، الفهامة المدرس، المدقق الفصيح، المنور المليح، الصوفي الجليل الأشهر… وكان من الملازمين لتدريس “المختصر” بالقرويين…، ويفتي في النوازل والأحكام، وله تحرير في علم النحو…”[9].

       •  العلامة سيدي أحمد بن حمدون الشديد (تـ 1170هـ)، وهو من رجالات التصوف المشهود لهم بالفضل والصلاح وسِعة العلم، قال عنه صاحب سلوة الأنفاس: “الفقيه العدل الأرضى، الناظر المرتضى، العالم المدرس، الولي الصالح… وُلي النظر في أحباس فاس، وولي تدريس “الرسالة” بمستودع القرويين…”[10].

       •  العلامة الخطيب سيدي محمد أبو مدين بن أحمد الفاسي الفهري (ت 1181هـ): “كانت له مشاركة في الفقه والحديث، والتفسير والتصوف والبيان. ولي الخطابة بالقرويين والتدريس به سنين طويلة…”[11].

       •  الشيخ التاودي ابن سودة (تـ 1209هـ) الفقيه والمحدث والمفسر والصوفي: قال عنه صاحب الروضة المقصودة: “شدت إليه رحال الطلب، وجاءه الناس ينسلون من كل دب، حتى كثر الآخذون عنه أخذ انتفاع، وعمت درايته وروايته في أكثر البلدان، والأصقاع، فلست وإن أفنيت الأوراق والأقلام، بتمحيص ما تخرج له جهابذة الأعلام”[12].

       •  أبو عبد الله محمد المدني بن علال بن جلون الكومي الفاسي (تـ 1298هـ): “كانت دروسه بالقرويين والزاوية الكتانية… وأخذ الطريقة النقشبندية والأحزاب الشاذلية والدلائل وأعمال الجواهر الخمس وغيرها من أبي الحسن علي بن محمد بن عمر الدباغ…”[13].

       •  العلامة الفقيه الصوفي ابن الخياط الزكاري (تـ 1343هـ)، وهو أول رئيس للمجلس العلمي بالقرويين، “خاتمة المحققين، وإمام المدققين، شيخ الجماعة وآخر الناس علما وعملا، الصوفي العامل بعلمه… له تآليف عديدة كلها نافعة”[14].

       •  العلامة الفقيه الصوفي أحمد بن الجيلالي الحسني الإدريسي (تـ 1352هـ): وهو ثاني رئيس للمجلس العلمي بالقرويين، “سلك طريق القوم على يد الشيخ الصوفي الكبير محمد بن عبد السلام ابن عبود السلوي؛ وقد سلم إليه الإرادة حتى إنه يكون بين يديه كالميت بين يدي غاسله فلا يكمله إلا بأدب بالغ”[15].

      •  العلامة الفقيه العابد الصوفي أحمد بن العياشي سكيرج (تـ 1363هـ): “كان فقيها علامة مشاركا محصلا مدرسا مؤلفا ناظما. أخذ عن عدة أشياخ،… وألف تآليف عديدة مختلفة تناهز المائة طبع بعضها،… وكان له توغل كبير في الطريقة التجانية، وكتبه فيها تشهد بما ذكر”[16]. وقال عنه صاحب عُمدة الراوين في تاريخ تطاوين: “ياقوتة زمانه، وجوهرة أقرانه، حسّان الطريقة التجانية، وابن رواحها، والحائز من أرباحها ما فيه كمال نفسه وحُسن فلاحها”[17].

      كثيرة هي الروايات لعلماء القرويين وفقهائهم في إثبات الحق، والإشادة بطريق التصوف تدريسا وسلوكا وممارسة، وإنما اقتصرنا على سلوك بعضهم، والذي يعبر بحق، ويعكس بصدق، صورة أهل الفقه والحديث عن هذا العلم الرباني الذي يهتم بالقلب والوجدان والذي يُصطلح عليه بالتصوف.

يُتبع

————————————————–

  1.  فاس عاصمة الأدارسة للعلاّمة محمد المنتصر بالله الكتاني، ص: 101.

  2.  ورقات عن حضارة المرينيين لمحمد المنوني، الطبعة 3/2000م، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، منشورات كلية الآداب بالرباط، ص: 256.

  3.  فاس عاصمة الأدارسة للعلاّمة محمد المنتصر بالله الكتاني، الرسالة 2، القرويين: أقدم جامعة في العالم، ص: 59.

  4.  سلوة الأنفاس، دار الثقافة، الطبعة الأولى، 2004م، 3/104.

  5.  فاس عاصمة الأدارسة، للكتاني، ص: 59.

  6.  معلمة المغرب، مطبعة سلا، 1424هـ، 17/5837.

  7.  سلوة الأنفاس، دار الثقافة، الطبعة الأولى، 2004م، 1/115.

  8.  نفسه، 1/337-338.

  9.  نفسه، 1/156.

  10.  نفسه، 1/229.

  11.  نفسه، 1/366.

  12.  الروضة المقصودة، ص: 688.

  13.  فهرس الفهارس، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1982م، 2/ 1053-1054.

  14.  إتحاف المطالع بوفيات أعلام القرن الثالث عشر والرابع، لعبد السلام بن عبد القادر بن سودة، تحقيق: محمد حجي، ط1/1997م، دار الغرب الإسلامي بيروت، 2/437.

  15.  معلمة المغرب، /769-770.

  16.  موسوعة أعلام المغرب، تنسيق وتحقيق محمد حجي، 9/3177.

  17.  عمدة الراوين، مطبعة الخليج العربي، تطوان، 2006م، 6/67.

التعليقات

  1. محمد ابن الطيب البوشيخي

    تحية طيبة
    عندما نقرأ هذه الأسماء التي لا تمثل إلا نموذجا مختصرا لجل العلماء الذين كانوا يرون أن الجمع بين العلم والسلوك أو الظاهر والباطن هو القاعدة المثلى وهو كمال الكمال، ولم يكن موضوع تساؤل يوما ما لديهم، ولو كان كذلك لوُجد أثره في مؤلفاتهم..
    والحمد لله أن قيض الله أمثالكم لرأب الصدع الذي أحدثته الأيدي الخفية التي لا تخفى عن ذي بصيرة
    شكرا لكم وسدد الله خطاكم.

أرسل تعليق