Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

هوادي التعرّف (55)

بعد ذكر الغاية من السلوك، والمتمثلة في تحقيق المعرفة بالله، أشار الناظم إلى جملة من الخصوصيات التي يتصف بها العارفون بالله، والتي بالوقوف عليها يدرك العبد ما فاته من الله تعالى، ويطَّلع على ما سبق به المفردون وظفر به العارفون، ومنها: ما أشار إليه الناظم بقوله: “حرا وغيره خلا من قلبه“، قال الناظم:

ويَـصيـرُ عِـنْدَ ذاكَ عـــارفا به         حُـرّا وَغَــيْرُهُ خَـلاَ مِنْ قـلبــِـهِ

فَحَـبَّـــهُ الإلــهُ وَاصْـــطَـفــاهُ         لِـحَضـرَةِ الـقُـدس وَاجْـتَــبَـاهُ

الحرية عبارة عن غاية التصفية والطهارة.. قال بعضهم: ليس بحرٍّ من بقي عليه من تصفية نفسه مقدار حض نواة[1]، بل ليس بحر من بقي في قلبه مثقال ذرة من رقٍّ للمخلوقات..

ومن إشارات القوم في الحُر قول ابن عباد الرندي: “لا يسمى حرّاً إلا المتمحض في التجريد، المتحقق في الجمع والتوحيد، القريب الهمة فيما بين العبيد، فلا مقام له ولا حال، ولا صحة ولا اعتدال، ولا حول ولا ارتحال، فهذا هو الذي حاز مقام الحرية، إذ لم تبق عليه منه بقية، ولم يسترقه شيء من الآثار الكونية الظلمانية ولا النورانية”[2].

وقال القشيري: “إن الحرية تتحدد في أن لا يكون العبد تحت رق المخلوقات، ولا يجري عليه سلطان المكونات، وعلامة صحته سقوط التمييز عن قلبه بين الأشياء، فتتساوى عنده أخطار الإعراض.. واعلم أن حقيقة الحرية في كمال العبودية[3].

وقال الجنيد: “إنك لا تصل إلى صحيح الحرية وعليك من حقيقة عبوديته بقية[4].

وقال بشر الحافي: “من أراد أن يذوق طعم الحرية ويستريح من العبودية[5] فليطهّر السريرة بينه وبين الله تعالى[6].

فالذي يشير إليه الصوفية بالحرية هو أن لا يكون العبد بقلبه تحت رق شيء من المخلوقات، فلم يسترقه عاجل دنيا، ولا هدف ولا حظ ولا هوى، وتأمل قوله تعالى: “وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا” [الكهف، 28]، والهوى أهواء..

فكلَّما أحب المرءُ شيئا أو اتبع هوى إلا كان له عبدا، والله لا يريد أن تكون لغيره عبدا. والعبد حرٌّ مما هو آيس، وهو عبد لما هو فيه طامع.

والعارفون بالله، المتحررون مما سوى الله، في راحة أبدية، وعزٍّ دائم؛ لأن العارف لما تحققت عبوديته لمولاه، ولم يسترق قلبه شيء سواه، تحرر من رق الأغيار، ونظر إلى الدنيا بعين الفناء والاحتقار، فصرف همته عن كل شيء سوى الله تعالى، وقَصَرَهَا عليه فلم يبق له استناد إلا إليه، وتأمل قول حارثة: “عزفت نفسي عن الدنيا وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا[7].

قال صاحب الحكم: “أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك[8]، وقال كذلك: “ماذا فقد من وجدك وماذا وجد من فقدك[9]. فما يزال المرء يطوي الأكوان ويخرج عن عبوديته لها حتى لا يبقى في قلبه مثقال ذرة من رقٍّ لها.. حينها يصير عبدا حرا  لله وغيره خلا من قلبه..

وقد أنشد بعضهم:

أَتَمَنّى عَلى الزَّمان مُحَالاً        أنْ تَرَى مُقْلَتَايَ طَلْعَةَ حُرٍّ

————————————–

1. بغية السالك في أشرف المسالك، 2/449.

2. الرسائل الكبرى لابن عباد الرندي.

3. الرسالة القشيرية، ص: 218-219.

4. نفسه، ص: 220.

5. يستريح من العبودية، بالارتقاء من مشقتها إلى حلاوتها.

6. الرسالة القشيرية، ص: 220.

7. رواه البيهقي في الشعب، دار الكتب العلمية، ط 2، 2008م، 7/363.

8. غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية لابن عباد الرندي، ص: 315.

9. نفسه، ص: 356.

أرسل تعليق