لقد طال عمر مأساة المسلمين، واستبانت دوافعها، وإلى متى نبقى ضحايا هذه المأساة؟ وما هذا الاسترخاء والقعود؟ إننا لسنا في مستوى عصرنا فهما وحركة وإدراكا لطبيعة المتغيرات التي لا تعرف حدا للوقوف، ولكن أقل ما يقال: إننا نعيش عصر تخدير وليس عصر أداة وتغيير، وهذا هو الفهم القاصر والجمود وإعطائه صفة القداسة فمواقعنا في الوجود البشري عاجزة فاشلة، فالأمة عليها أن تعترف بعدم قدرتها على تجاوز الجمود، وتتهم نفسها بالتقصير؛ لأن النخبة منها تطارد عمليات المناصحة ومحاصرتها والقضاء عليها، مما أدى إلى صناعة مبررات وسائل التخلف وتكريس شبه القهر والجهل والمرض.

ويجب ألا يغرب عن بالنا أن نجاة الأمة لا تتحقق بالانسحاب من ساحة المجتمعات والنكوص إلى الخلف والنزول إلى المخابئ مما جمع لدينا علل من سبقنا وساهمنا بقسط كبير في صور التضليل والتشويه، وما انتبهنا إلى جذور المحنة حتى وجدنا أنفسنا ضائعين بين أغصانها، محنتنا انبثقت من جذع واحد لا ثاني له إنه فكر التخلف، تمزقت بيننا صلات القربى وزحم الآلام والآمال، وتبعثرت ثرواتنا وارتدت إلينا أغلالا صفدتنا حتى الأعناق، إن انمحاقنا تجلى يوم حشرنا أنفسنا محتبسين في رقعة شطرنج تتلاعب بنا أيدي الخبث حتى نبقى مدى الدهر نتغنى بأمجاد دابرة ونتباهى، ضمن دائرة مغلقة نطوف فيها حول محاور الأوهام ونترنم بحكايات في رقى وتمائم نتمسح بها ونعدها من التراث.

إن التقدم يبرز من واقع الانسجام مع الكون و الإنسان والحياة، والخروج من المأزق إنما يتمثل في الاعتراف بأننا أمة تعيش اليوم ضالة عن ذاتها، ومن لم يفجر بالعلم والتقنية والخبرة ينابيع كنوزه وخيراته؛ لأنه المنطق الذي تأمله الآخرون ووعوه، أما نحن فتحولنا إلى شقاق لا ينتهي وتصدع لا يلتئم، فما نستيقظ على آلام الجراح لننشد السبيل الصحيح لاستعادة دورنا ولم الشعث وإصلاح الحال؟ وكل صرح حضاري لا ينهض شامخا راسخا إذا لم يرسخه يقين ديني معززا بالعلم والسلوك، واليوم لا عذر لمنسحب من معركة الحياة بسبب فهمه القاصر، والأمر ليس كلاما يقال: ولا حلما ولا خيالا.

إن الدارس الحق لوضعنا الكارثي هو من يملك شخصية متميزة ورأيا حرا مستقلا يقول ما يراه حقا، ولا يأخذ من الآراء إلا ما يقتنع به ويطمئن إليه، وهذا هو الذي نعول عليه؛ لأنه يلتقط إشارات محفزة ودافعة، لا ينتبه لها إلا العالمون بأحداث الزمان، ونجده يقتبس من هذا الكون بما فيه ومن فيه للإحاطة بفجوة التخلف والسبيل الذي به تجبر هذه الفجوة اللعينة، مع الإدراك الفهم الصحيح للبناء والتجديد، ويوم نتعرف على بديع صنع الله تبارك وتعالى في هذا الكون نستطيع القيام بأعباء الاستخلاف الإنساني وتسخير الكون كما أراد الله.

وما دامت نظرتنا غير إنسانية للحياة فهي جزئية وغير متكاملة، وما دامت انطلاقتنا لغير صالح الإنسان، وليس لدينا التزام أخلاقي فإن الحياة نفسها تفسد، والتمييز الصعب هو العجز عن الفهم والانغلاق ومسألة النهوض كالشجرة تحتاج لإمداد جذورها إلى أعماق الثرى حتى توتي ثمارها، ولابد من عملية تبادل مع الآخر تساعد على النضج المطلوب، فالعلم ليس ملكا لشعب دون شعوب أخرى، فأمتنا يا قوم: أولى الناس به، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها.

والعيب عندنا هو البيئة والمناخ، ومن لم يفهم قوة الدفعة الذاتية يضيع مع من ضاعوا في هذا الكون، ومشكلتنا أننا نعمل بلا تخطيط، والآخر كل شيء عنده مخطط ومدروس، نحن نهتم بالشكل ولا نهتم بالمحتوى والمضمون، والواجب أن نعلم أننا أمة صاحبة رسالة إنسانية عالمية سامية، تنير الأبصار وتحث على النظر والتفكير في المحسوسات، وعلى البحث لإخضاع ظواهر الكون وتأكيد عالمية العلم سواء في الأخذ والعطاء، والاعتماد على الملاحظات والتجارب في الوصول إلى الهدف والمبتغى، وبإيمان يستطيع التغلب على العوائق والمثبطات، فكل شئ يتجدد في هذا العصر، فلماذا لا تجدد نظرتنا إلى الحياة والإنسان إذا أردنا الخروج من الركود؟ ولا يتأتى ذلك إلا بإعداد الإمكانات  اللازمة لتطوير البشر المخدر عندنا.

وما علينا إلا أن نمارس تجربة جديدة مع الذات ومع الآخرين، والتي تمكن هذا الإنسان من مواجهة ما يسمى حركة مشاكل الإنتاج والتصنيع، والربط بين الإنتاج والتصنيع، لكن العملية تحتاج إلى إعادة تحديد الأولويات وأساليب العمل وأدوات العمل والإنتاج، ومتابعة جادة في إخضاع كل عمل إنساني للدراسة والفحص والاختبار للوصول إلى المداخل الحقيقية التي تمكننا من ناصية العصر، وامتلاك القدرة على التعامل مع الصورة العالمية من حولنا، في هذه الأرض التي أصبح فيها كل شئ خاضعا للدراسة والتجريب والاختصاص.

وأدوءأ أدوائنا القاتلة، هي التستر على الأخطاء باسم المصلحة العامة، فالأمة بدون حسبة وبدون تناصح يصيبها مرض التوحد والتحجر والتزمت، والكارثة والخلل يتسللان إلى الحياة الإنسانية هو العصمة الكاذبة التي تخلع على بعض الأشخاص، وهذا لن يجعل الحياة كاملة لأول يوم، ولكنها ستبدأ من بعض الطريق وتتقدم صعدا إلى كمالات الحياة الإنسانية، وبذلك ينفعل الناس بالتدين في كل حركة من حركة الحياة العامة، وعلينا ألا ننكر أن جوانب واسعة من حياتنا هي ثمرة لتطور جديد هاجمنا نحن النيام.

وهذا عبد الله بن المبارك محدث المشرق والمغرب كان بالإضافة إلى شهرته في علم الحديث، ورغم زهده كان يتعاطى التجارة والحرث والفلاحة، ولما سئل عن ذلك قال: إنما أفعل هذا لأصون وجهي وأكرم به عرضي وأستعين على طاعة ربي، وعلاج هذه العلل والأمراض يتطلب تضافر جميع القوى لتقدم للشباب بوصلة في صورة عصرية يقبلها ويتعلمها ويعقلها، إذا أردنا له أن يسهم على المستوى الشخصي والاجتماعي في تقدم عجلة الحياة البشرية وصياغته ذاتيا مع تمتين علاقته بغيره من شباب الدنيا، وهذا هو الشيء الذي سيمكنه من نقد الحضارات والإضافة إليها وتطويعها لخدمة كل إنسان في الكون والحياة.

وتوطين العلم ينقذ الأمة من البلبلة السائدة، ويحفظ عليها ذاتيتها بعودة مبصرة بصيرة.. والآن أما آن لنا أن نأخذ بالمعاني الناضجة لأسباب الحياة، ونركب نهر المعرفة المتجه نحو الغد المنشود؟ لأن العوج والشرود لا يقرران مستقبلا ولا يوصلان إلى غاية، وللعلم فالكون مسخر للإنسان ولن يكون طوع إرادته إلا إذا اكتشف قواه وسننه، وطوعه لخدمة الإنسانية، والحديث مع الإنسان والحياة والكون ذو شجون، وشجونه تنقض الظهر فها هي أنفسنا تخضبت جفافا وأراضينا لوثتها دماء حروب وأطفالنا ضاعوا في الفيافي جوعا وقهرا، في صقيع الخوف وزئير التطاحن البشري وغابت المواقف الحازمة لإيقاف هذا المد المنحرف.

وآفة عصرنا هذا طغيان وجحود، وتجاهل للمواقف الإنسانية، الكل جاحد عدو لأمته وإنسانيته، ومن وراء ذلك سوء النية، فكان ما كان مما نرى ونسمع ونلمس من مفاسد، ولا من يستجيب للنذير والتذكير والكل نسي أو تناسى أن النهضة وحدة واتحاد، بل هي الأدواح التي ظلها دائم وأفرعها في السماء، ثمارها العزم والحزم والإخلاص، وروحها التمرد على التعفن والجمود والتفلت من الأسر والقيود، والأغلال لتحقيق أماني الشعوب، ومستقبل الأولاد والأجيال، وتوديع الفواجع القاسية الأليمة، وامتلاك أسباب السعادة الكامنة في القوة والعزة والرقي بالأوطان إلى ذروة المجد ونشر رايات التسامح والسلام رحمة للإنسانية، ومن لا يعرف ذاته وجذوره لا ينتفع بصرخة الثكالى والأرامل؛ لأنه راض بالاستسلام المهين.

وإنما أصاب الأمة ويصيبها اليوم هو بسبب منها، ومهما حاولنا الهروب من الساحة والإلقاء بالتبعة على الآخر، وعدم الاعتراف بأخطائنا ومعالجتها، فسنزداد سقوطا وتخلفا وانسحاقا.

وأخيرا فإن النهوض بالمجتمع عسير، ومع ذلك فلابد من الصبر على طول الطريق وبطء المراحل وانطماس المعالم وبعد النهاية والمطاف، والصرح العظيم لا تقام صياصيه إلا على أركان في حراسة جماعية متكاملة متضامنة، والارتفاع إلى مستوى المسؤولية والأحداث بصدق وجدارة.

وبالله التوفيق وهو المستعان