نهاية إقدام العقول عِقالُ
يطلع علينا بين الفينة والأخرى “اجتهاد أزوم” أو “فتوى أزام” تزيد من شدة الضيق والحرج الذي يعاني منه الفكر الإسلامي اليوم، وهذا في تقديري يعبر أبلغ تعبير عما قد يعتري بعض العقول من حالات اليأس والقنوط والعجز عن إيجاد حلول لما يعرض للناس من حاجات وأقضية في واقعنا المعاصر.
معظم هذه الفتاوى هي وليدة ظروف معينة في فترات زمنية سابقة، وأبى البعض إلا أن ينقلها بفصها وفصيصها ثم ينـزّلها تنزيلا مخلا في وسط ساحة واقعنا المعاصر، الشيء الذي جعل من هذه “الاجتهادات العجيبة” المحسوبة على العلم تتميز بالنكوص والدوران في حلقات علمية تاريخية يصعب التخلص من أسرها المعرفي، ليجد الإنسان نفسه في آخر المطاف يردد مع الشاعر قوله:
نهـايــــة إقــدام العقـــول عقــــــال وأكثــر سعــي العـالميــن ضــلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنـا وحـاصــــل دنيانــــا أذى ووبـــــال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنـا سوى أن جمعنـا فيه قيـل وقالـوا
إن مما يؤسف له أن أغلب هذه الفتاوى التي تسقط فوق رؤوسنا من حين لآخر ظلت حبيسة الدوران حول إنتاجات معرفية تاريخية لم تستطع بالفعل تجاوز ثنائية “قيل وقالوا”، فصاحبها التكرار والاجترار، وانتفى فيها الإبداع والاجتهاد، كأن الأزمنة خلت من أهل الاجتهاد والنظر والبحث، حتى كاد الشك أن يصيب كبد الكلمة المشهورة “لا يخلي الله زمانا من قائم بالحجة” التي سطرها عدد من أعلام الأمة، شأن ما قام به الإمام السيوطي في كتابه الرائع “الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض”.
ولا يخفى على الباحثين أن الحجة المعول عليها عند هؤلاء الذين يستدعون هذه الفتاوى من أزمنتها السالفة، لينقلوها بشكل متعسف إلى زماننا دون استصحاب سياقاتها العلمية، هو قناعتهم بعدم اللحوق بعلوم الأولين، وكذا وقولهم: “ما ترك الأول للآخر شيئا”..!
وقد أورد الأستاذ عبد الحي الكتاني في كتابه (التراتيب الإدارية: ج1، ص7) نصوصا لأهل العلم تفند هذا الادعاء، ومن ذلك قول الحافظ ابن عبر البر: وما كان أضر بالعلم والعلماء وبالمتعلمين من قول القائل: ما ترك الأول للآخر شيئا.
ومن ذلك قول لأبي الحسن المسعودي في كتابه “التنبيه والإشراف”: وقد تشترك الخواطر وتتفق الضمائر، وربما كان الآخر أحسن تأليفاً وأمتن تصنيفاً لحكمة التجارب وخشية التتبع والاحتراس من موانع المضار.
ومن ها هنا صارت العلوم نامية غير متناهية لوجود الآخر ما لا يجده الأول، وذلك إلى غير غاية محصورة ولا نهاية محدودة.
على أن من شيم كثير من الناس إطراء المتقدمين وتعظيم كتب السالفين ومدح الماضي وذم الباقي، وإن كان في كتب المحدثين ما هو أعظم فائدة وأكثر عائدة..
ولست أدري كيف فات هؤلاء الذين يُحسبون على العلم ما سبق تقريره من طرف علماء الأمة أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان وما يرتبط بهما من تغير في أقضية الناس وحاجاتهم وأعرافهم وعوائدهم، وما أحسن قول الإمام القرافي في كتابه (أنوار البروق في أنواع الفروق: ج2 ص 229) وهو ينصح كل طالب علم مجتهد لبيب: فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأَجْرِه عليه، وأفته به دون عرف بلدك ودون المقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدِّين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين…
نعم، إن الجمود على المنقولات من جنس الفتاوى المرتبطة بخصوصيات معينة بدون فقه وعلم، ضلال في الدين وأي ضلال!! ولعل هذه الفكرة التي نص الإمام القرافي عليها فعلت فعلها المعرفي في عقل الإمام ابن القيم فأثبتها في كتابه (إعلام الموقعين: ج 3 ص 88) ثم علق قائلا: وهذا محض الفقه. ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم.
إننا في أمس الحاجة إلى قراءة تاريخ الفكر الإسلامي قراءة واعية تجنبنا الوقوع في مغالطات معرفية واجتهاد خارج التغطية العلمية كما هو حال بعض الفتاوى الغريبة التي خصصنا لها هذه الكلمة المختصرة.. وأهمس في أذن بعض الذين يجهلون خصائص الاجتهاد وسننيته فيصابون بعدوى نقل الماضي ونسخه ولصقه بكل حيثياته بواقعنا بما قاله ابن شرف القيرواني:
قل لمن لا يَرى المُعاصر شَيئاً ويـــرى للأوائــل التقديـمـــــــا
إنَّ ذاك القديــــمَ كـــان جديداً وسَيغدو هذا الجديــدُ قديــمـا
-
شكر الله لك يا جميلة سؤالك الوجيه، وأعتذر عن التأخير في سلوك سبيل الجواب عليه.
في تقديري أن السبب العام الذي أفضى إلى الوضع السابق تفصيل بعض جوانبه في المقال أعلاه هو اضطراب الرؤية في قضية الاجتهاد وإنتاج الفتوى في الفكر الإسلامي، الشيء الذي يؤكد على وجود قصور معرفي في التعامل مع بعض مصادر المعرفة الإسلامية.
وللخروج من هذا التيه العلمي نحتاج إلى عملية منهجية دقيقة ترتكز على الوعي البنائي، والقصد منها ربط الاجتهاد بالفهم التاريخي والسياق الموضوعي. ومن شأن هذه الخطوة العلمية أن توضح لنا أنه يجوز استصحاب نتائج الاجتهاد في أي فترة زمنية أو مكانية للاستفادة منها دون التعويل كليا عليها
ولتوضيح هذا الخطوة المنهجية أضرب لذلك مثلا بالوقوف عند سبب تأليف الإمام الشاطبي للموافقات والاعتصام. فقد كتبهما في ظروف زمانية ومكانية وسياقات علمية تحمل مؤشرات نهاية الوجود الإسلامي في غرناطة، وكأن الاهتمام بالمقاصد والاجتهاد فيها إحياء للأمة وإنقاذها في كل مرة توشك شمسها على الأفول.
وهذا يعني أن الباحث في هذا المجال المعرفي عليه أن يستحضر هذا البعد المعرفي حتى لا يتكرر اجتهاد الإمام الشاطبي في نسخ متعددة بتعدد الأزمنة والأمكنة..!!
وهكذا دواليك في شتى العلوم والمعارف الإسلامية، مما سيفتح بابا واسعا لطلبة العلم لإعادة قراءة "تعليل الاجتهاد" في تاريخ الفكر الإسلامي..
والقصد من ذلك كله الخروج من دائرة التيه المعرفي الذي يشكل ذلكم الانفصال بين الخطاب الشرعي والواقع أحد مظاهر الأزمة الإسلامية المعاصرة.. -
السلام عليكم أستاذنا الفاضل
ومشكور لكل هذا الفيض الآسر دوما، الذي تتحف به الباحثين.
إن الرأي الاجتهادي الذي صغت به طرحك المنهجي، اشترط فيه الفقه شروطا تحرره من كل ما هو تقليد وظن وميول. فالاجتهاد يستند إلى نصوص صحيحة، ذي دراية بلغتها وأسلوبها، واطلاع بسياقاتها(أسباب النزول) والمرامي التي تهدف إليها(مقاصد الشرع).
إنه فهم الشيء في ضوء ظروفه الزمانية والمكانية، وتجنب إسقاط الحاضر على الماضي، أو نقل الماضي للحاضر، بصورة اعتباطية تعسفية.
إننا اليوم محكومون في اجتهاداتنا للإنسان والمجتمع بالشروط التي يفرضها الواقع. لتقديم فائدة حضارية تساعد في تحسينه وتجاوز أزماته، والوعي بالوجود والرسالة التي خلق لأجلها الإنسان.
وأغلب قراءاتنا لما كان موضوعا للتفكير أو قابلا لأن يكون في تراثنا الإسلامي، سيكون موجها للرغبة في إيجاد سند تاريخي يمكن من تأصيل المضامين المعاصرة التي يحملها الواقع. تأصيلا واعيا ومرجعيا دون تضخيم أو تمويه.
إن التجديد والاجتهاد ليس الهدم والإتيان بالجديد كما يظن، إنما التجديد في الإسلام هو إعادته إلى ما كان عليه وقت النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الأطهار رضوان الله عليهم. أصلا ومغزى وغايات… -
بسم الله الرحمن الرحيم
شكر الله لكم أستاذنا على طرحكم هذا الموضوع في وقته المناسب ومن شخصه المناسب، فكان تنزيلا بالمعنى الفعلي للكلمة
نعم، لقد صار شغل الباحثين اليوم "جمع" ما قال الأولون في مسألة ما فيصبح بحثهم عبارة عن "قيل وقالوا" وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
فالإشكالية مزدوجة
إشكالية منهجية
وإشكالية تصورية
فما السبيل إلى الخروج من هذه الإشكالات التي زكتها أقوال عدة انتشرت ودرجت على الألسنة كأنها قرءان يتلى أو حديث يروى "ما ترك الأول للآخر شيئا"- متناسين أن هذه القولة تفقد الإسلام خصيصته المتفرد بها وهي صلاحيته لكل زمان ومكان- ؟
وما هي الخطوات المنهجية التي تنصحون بها طالب العلم حتى ينهج طريقا وسطا؟
فهل إلى جواب من سبيل
وشكرا
التعليقات