نظرات في التحدي التربوي.. (14/15)
قال الله تقدست أسماؤه في محكم كتابه العزيز: “وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون” [العنكبوت، 41].
1. التفكك الأسري أو اهتزاز بنية العائلة
الأسرة وحدة اجتماعية موصولة ببقية مؤسسات المجتمع، تتأثر بتحولاته، وتؤثر في بعض جوانبه، وهي الحضن التربوي الأول الذي يتشرب منه الإنسان أنماط السلوك المختلفة ومعايير القبول في المجتمع.
والأصل في الأسرة هو “استقرار أحوالها المعيشية ومعتقداتها الدينية أو منطلقاتها الفكرية، وأي تغيرات في تلك الأبعاد تنعكس على وظيفة الأسرة في المجتمع حتما“.
وإذا طبقنا تلك القاعدة على الأسرة المسلمة المعاصرة وجدناها صادقة؛ إذ إن هذه المؤسسة (الأسرة) قد شهدت بسبب التحولات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، التي جرت في مرحلة الاستعمار المباشر اهتزازا وتفسخا في بنيتها الكلية، فلم تعد الثوابت هي الثوابت، وموازين السلوك هي الموازين، بل لحق ذلك جميعا انقلاب كبير، ومسخ معنوي مهول لم نزل نختنق بدخانه وغلوائه.
لقد أصبح التحلل سمة غالبية الأسر المسلمة، وغدا النمط الغربي سمة بارزة في سلوكها وعاداتها وتقاليدها وأسلوب معيشتها، حتى لكأنه لم يعد لهذا الحصن من دور أو وظيفة في السنوات الأخيرة سوى تلقف ما يلقي به إليه الغرب من بضائع وأنماط، ومتابعة سننه وطرائقه حذو النعل بالنعل!!
ويقترن بالاهتزاز الأسري اشتغالُ بعض الأسر المسلمة لاسيما في الحواضر والمدن بتعلم العادات الإفرنجية، وإنفاق الجهد والوقت في ذلك، فأخذت العادات الوافدة تنعكس على تفاعلات الأسرة وذوقها ونمط حياتها، ومن ثم دخلت اللغة الأجنبية إلى محيط الأسرة، وبدأ التخاطب بها والتفاخر بها يزداد على حساب اللغة الأصلية بسبب التعليم الغربي أو التقبل النفسي للاغتراب.
ونحن إذ نلاحظ هذه العُطوب الواقعة في النسق الأسري بمجتمعاتنا، لا يفوتنا أن نذكر بمعاول الهدم الرئيسة التي عملت على تقويض بناء الأسر المسلمة، وتجميد فعاليتها ووظيفتها الإيجابية، وهي:
أولا: المدرسة بروحها وبنيتها العلمانية؛
ثانيا: ثقافة الصورة ووسائط الاتصال؛ الحاملة لقيم البذخ والاستهلاك، المتحللة من هدي الدين والفطرة؛
ثالثا: تأثير المؤسسات المجتمعية العامة بما تشيعه قراراتها ومرافقها ومخططاتها الاجتماعية والفنية والإعلامية والاقتصادية الليبرالية من روح العلمنة، وبخس القيم والإغراء بالنمط الإفرنجي وتوجهاته الفكرية والنفسية..
وهكذا، أتي على الأسرة المسلمة من القواعد، وانكمشت قدرتها الوقائية الدفاعية، فأصبحت نهزة للعواصف الهادرة التي تهب من شرق أو غرب، وأصبح المرء يسمع ويرى ظواهر شاذة ومثيرة في المجتمع الإسلامي المعاصر، وهي أفظع وأسوأ أحيانا مما يسمع ويرى في غيره من المجتمعات، مثل شيوع حالات الجريمة والقتل، وتصاعد نسب الطلاق، وشعور عدد كبير من الشباب بالعزلة والقلق والإحباط والاكتئاب، والخوف من المستقبل، والرغبة الجامحة في الهروب، وتفشي ظواهر الشذوذ الجنسي والإدمان، وحالات الانتحار والانهيار، والأمراض النفسية والعصبية، وانتشار عصابات المخدرات، والاغتصاب، وغيرها.
2.”الفرنجة” أو اغتراب القيم.
يقول ابن خلدون: “إن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه وسائر أحواله وعوائده“[1].
الواقع أن السمات التي تتبعناها وتصفحناها في الحلقات السابقة ليست إلا نتيجة طبيعية لبنية أسرية واهنة فقدت تماسكها، وانهارت من الداخل، واختل نظامها الوقائي، وتعطل إسهامها البنائي، وهذا مبني على ما ذكرناه آنفا من كون الظواهر الاجتماعية تخضع في نشوئها واستمرارها لقانون التأثر والتأثير، والدور، والتسلسل.
لقد أخضع العالم كله لهيمنة التغريب Occidentalisation))، لكن نصيب العالم الإسلامي من هذه الهيمنة كان أشد وأعمق، حيث تداعت عليه رياح الهيمنة من كل جانب، وكان الشعار الذي يلوح به دائما لتجرع التغريب في البلاد الإسلامية، تحديث الهياكل القديمة، واللحاق بركب الغرب الصناعي المتقدم، وضرورة التخلص من عقد الماضي والتراث، والتفتح على التجارب الخارجية بحلوها ومرها دون قيد أو شرط.
بيد أن نتائج هذه التجربة جاءت على عكس المأمول، إذ كان التغريب هو الطريق المضمون لخسران رهان التحديث، ومن ثم استمرار واقع التخلف وتعميق أخاديده وموجباته، وتعقيد مشكلاته وآثاره.
ولم يكن مشروع التغريب في البلاد المسلمة إلا عمليات طمس وتشويه لمقوماتها الحضارية ومعالم شخصيتها المستقلة، لتحل محلها قيم الغالب وعاداته ونظمه وسلوكه في الحياة، وليتعمق صراع القيم وتعارضها في وعي الفرد والجماعة.
لقد كانت الإفرنجية مشروعا عقديا وحضاريا شاملا، لم يكن متوجها إلى النخب والقيادات فحسب، بل كان يكتسح جمهور الناس صغيرهم وكبيرهم، وحاضرهم، وباديهم، وجاهلهم، وعالمهم، فشوشت عقائدهم، وأفسدت أذواقهم، ومسخت قيمهم، وبلبلت ألسنتهم، وفرقت شملهم، وقلبت أحوالهم رأسا على عقب. يبدو ذلك في اختيارات السلوك، والذوق، ومظاهر اللباس، وأشكال الاحتفالات والتقاليد، وقيم العلاقات السائدة، ولغة التخاطب في المؤسسات والإدارات..
ويجب القول: إن ذلك كله مما يشكل اليوم فتنة حادة للشباب وضعاف الرأي، مما يؤدّي إلى تغذية ظواهر انشراخ الوعي، والتفكك الثقافي والنفسي واغتراب القيم، إذ يلاحظ على مستويات كثيرة مواقف لدى الطرف المغلوب تجعله يبخس من بعض قيمه حتى الأصيلة منها، ويفتخر بقيم الطرف الغالب حتى السقيم منها، وهذا يدل على أن المغلوب لا يعاني اغتراب القيم فحسب، وإنما يعاني كذلك انهيارا معنويا نفسيا عميقا يجعله في أحسن الأحوال يقف موقف الدفاع عن قيمه ونسبه وحضارته؛ وهو الوضع الذي يصطلح عليه الأستاذ عبد الرحمن الكواكبي بـ التمجد.
ومن ثم، فاحتقار النفس واهتزاز الثقة وأزمة الهوية، وهزال الروح، وانطماس البصيرة، وغياب الإبداع، والشغف بالأجنبي وتقليده، والثرثرة بدعوى التشبث بالأصالة من أهم الطوابع المميزة لشخصية المجتمع المسلم المغلوب، ودونكم الشكل التالي الذي يوضح جميع ذلك:
————————————————
1. ابن خلدون: المقدمة، ص: 133.
أرسل تعليق