نحو الإمساك بحركة التاريخ
تناولنا في العدد الماضي من جريدة الميثاق الغراء موضوع الصفوة المُغاضِـبة، وكان القصد هو التنبيه لأهميتها في الدور الحضاري المنشود للأمة الإسلامية في الوقت المعاصر. ونستمر في هذا العدد بحول الله وقوته في تسليط مزيد من الضوء على هذا الموضوع.
فمن الأمور التي تحظى بكثير من الإجماع بين العديد من الباحثين والمفكرين هو ضرورة وحتمية إعداد فكري حضاري لكل حركة تاريخية ذات مغزى حضاري حتى تأخذ الحركة معناها ومكانها الكاملين في مجرى التاريخ، وهذا التمهيد أو الإعداد الحضاري هو الذي يسمى الوعي الحضاري، وليس من الضروري أن يكون هذا الوعي قائما في أذهان الأمة كلها لتتحرك للعمل، بل يكفي أن تكون هناك أقلية قائدة واعية. [1]
إن هذه الأقلية «القائدة الواعية» هي التي تنعت بـ«الصفوة»، وهذا النعت لا يحمل أي معنى من معاني تمايز الناس أو تفاضلهم، وإنما المقصود أن لكل جماعة إنسانية صفوتها المختارة التي تقود وتوجه وتبتكر وتنظر، وتحسب حساب الحاضر والمستقبل. ولا تزال الأمة بخير مادامت صفوتها بخير كذلك، وإذا هي تراخت وركدت وفقدت دورها القيادي أثر ذلك بشكل سلبي ومباشر على المجتمع كله، فيتداعى للانهيار والتصدع والتخلف. بل إن بعض الدراسات تذهب إلى أن وجود صفوة زائفة خير من انعدام الصفوة إطلاقا، لأن انعدامها معناه الفوضى، والفوضى لا تعود بالإنسان إلى البدائية فحسب، بل ترد الجماعات إلى العدم، وتقضي على الحضارة وتبيدها.[2]
لقد وعى عدد من المفكرين تمام الوعي مهمة العلماء والباحثين، فنبهوا إلى خطورة مكانتهم الحضارية، فهم أهل «الحل والعقد» في أممهم، وهم الذين جعلوا التاريخ يشهد عليهم بأن «صلاح الأمم متعلق بصلاح الصفوة فيها»، فلا محيد إذن من أن لا يتخلفوا عن المسؤولية الملقاة على عاتقهم.
ولا عجب من أن نجد من الباحثين المعاصرين من يوجه «بلاغا» إلى هذه «الصفوة» لينبهها فيه إلى ما سبقت الإشارة إليه، ويذكرها بأن العلم والفكر هما أقوى دعامتين وأهم مقومين لكل نهضة قوية نجت من «مرض الطفرة الخادعة!»؛ وأما تحميل العوامل الداخلية والخارجية مسؤولية ما حدث للأمة فهو أمر لا يقرره الواقع ولا دقة تقدير الأمور، فالصفوة تتحمل قسطها الكبير من تبعة ما جرى ويجري للأمة.[3]
وإذا كانت الأمة تريد الإمساك بحركة التاريخ، وإيجاد مكان لها تحت الشمس، فهي تحتاج إلى صفوة من العلماء والباحثين والمفكرين تناط بهم مهمة إعداد منهج شمولي يجمع بين«الإمكان» و«الشهود» الحضاريين للأمة جمعا هيكليا، تتكون قاعدته من عقل إسلامي يستوعب الماضي والحاضر معرفة ومنهجا وتصورا، وتتفرع عنها أعمدة القيم والعلوم والسنن والفقه الحضاري لكي تستشرف المستقبل استشرافا متميزا، يعيد للأمة مجدها وعزتها وخيريتها..
ويبلغ هذا الجمع تمامه إذا أسس على جمع أول سابق عليه، وهو«الجمع بين القراءتين»: قراءة الوحي المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقراءة الوجود، مما سييسر اتباع سبل الهداية والصراط المستقيم، ويمنح العقيدة قدرتها وفعاليتها ودافعيتها الحضارية، ويجعل من العلوم الإسلامية سقفا معرفيا بمنهجية متكاملة، صالحة للتمثل في كل زمان ومكان.
إن امتلاك صفوة العلماء لنواصي المعرفة بمصادر التشريع الإسلامي، وتوفرها على مفاتيح خزائن التراث المعرفي الضخم، ومرورها بتجربة علمية رائدة، واحتضانها لكثير من البحوث والدراسات المتميزة، وإيمانها بسنة التجديد، لهو كفيل أن يكسبها القدرة على اكتشاف مواطن الخلل، وتحديد مواقع القصور والتقصير، مما سيسهل عليها مباشرة الإمكان الحضاري المنشود، ويجعلها تحقق فريضة الشهود.
إن هذه الثلة الخيرة هي القادرة على وضع منهج يجمع بين أسس العقيدة وحقائق الشريعة الحكيمة وخطوات التربية السلوكية الإسلامية، ويخطط للمجتمع كي يعود مؤمنا موحدا عالما عاملا عابدا مجاهدا، ينبه على الأخطاء، ويناقش المعوقات، ويدعو إلى الاتفاق على الكليات وترك الجزئيات الاجتهادية للمناقشات العلمية الهادئة.
إن الشيء الذي يجب التأكيد عليه في ختام هذه المقالة، وكذلك نبه عليه العديد من الباحثين في حقل المعارف الإسلامية، هو أن أمتنا في أمس الحاجة لمن يعمل على جمع الجهود العلمية المعاصرة المتناثرة، وتوحيد الصفوف المختلفة، وضم لبنات بناء الصرح الحضاري بعضها إلى بعض ليبلغ البنيان تمامه. وحري بمؤسسة العلماء أن تقوم بهذه المهمة السامية، فعليها مضاعفة الجهود لاحتواء حركة التجديد والإحياء المعرفية المعاصرة وتأطيرها بما يلزم من طاقات علمية، وإمدادها بما تحتاجه في مسيرتها الإصلاحية المباركة بالمناهج والتصورات والأفكار والآراء والنظريات، خاصة وأن العالم اليوم يشهد بداية مرحلة جديدة من التدافع الحضاري بين الأمم والشعوب، مما يوجب أن تكون لمؤسسة العلماء أولوية في البحث والتخطيط، والدراسة والتحليل، وترصد لها كل الوسائل والإمكانات التي ستعمل على إخراجها من دائرة الانتظار والتأمل إلى حيز العمل والتطبيق، وبهذا تستطيع الأمة أن تمسك بحركة التاريخ وتستأنف القيادة الحضارية المنشودة.
———
1. يرجى الرجوع إلى كتاب الأستاذ حسين مؤنس: الحضارة، دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها، ص 114.
2. أنظر المرجع السابق، ص 118-120
3. أنظر عبد الله المحسن التركي: بلاغ إلى الصفوة، مجلة المسلم المعاصر، ع43، من ص 5 إلى ص 14.
-
السلام عليكم
الأستاذ القدير؛
بارك الله فيكم وفي علمكم وزادكم نورا؛
لكن دعني أستاذي الفاضل أضيف إلى أن النجاح والاضطلاع بهذا التحدي، يبغي مستوى فهم واقعي أعمق. وبالتالي نحن لسنا بحاجة إلى علماء بأمور الفكر والشرع، وإنما لعلماء عارفين بالله. وشتان بين المنزلتين.
إن إعادة الاعتبار لهذه الأمة -بمدخل العلم الذي سقته – إنما بيد ولاة أمورها وأغنيائها الذين وجب[فرض عين] أن يقتطعوا من أموالهم وجهدهم في تكوين طلبة العلم، حماة الدين، وجنود حمى الملّة، حتى نجد جندا خاصا بعلوم القرآن، وجندا في الحديث، الفقه، السياسة، الطب، والعلوم بأنواعها…
ووالله إن طلبة العلم الذين تفرغوا لهذا لكثر، ووالله لو تكفل كل غني بطالب واحد فقط، لصلح أمر هذي الأمة وعلا شأنها.
محبكم في الله طه.
.
التعليقات