موارد النور.. (4)
قال الله تقدست أسماؤه: “إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ امَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ” [التوبة، 18]. وقال جل شأنه: “لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ اَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ” [التوبة، 109].
الإسلام باعتباره شرعة ومنهاجا، أحكاما وقيما؛ إنما يمهد للناس طريق الهداية التي تأخذ بنواصيهم إلى الحق والرشد والكمال. لهذا نزل الوحي وتتابعت نذره وبشائره “يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” [النساء، 175]، “كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” [اَل عمران، 103] وهذه الهداية في مجالات النظر والفكر، وفي مناحي السلوك والمعاملة هي النتيجة المنشودة من وراء الشعائر والعبادات المقررة.. فليست الغاية من الطاعات الاعتياد على أشكالها، وتقمص صورها بل الغاية منها أن تزيد حدة العقل في إدراك الحق والعمل به، وتمكن الإنسان من ضبط أهوائه، وإحسان السير في الحياة بعيدا عن الدنايا والمظالم.
إن الإيمان بالله وفرائض الصلاة والصيام والزكاة أنوار تتجمع في حياة الإنسان لتسدد خطوه، وتلهمه رشده، وتجعله يتحرك في بيداء الحياة خاضعا للحق على الدوام لا يتنكر له. والذين لا يستفيدون من صلتهم بالله هذا النور الكاشف وهذه الهداية الهادية فلا خير في عباداتهم، وهذا سر التعبير الذي ختمت به الآية “فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ” [التوبة، 18]، كأن فعل الصالحات لا يكفي ولا يشفي إلا بشروط تتطلب الكثير من اليقظة والتأمل والاستيعاب والجهد.
وجميع الرذائل والمفاسد التي نهى الله عنها إنما كرهها لعباده؛ لأنها تسقط ضمائرهم، وتعطل عقولهم، وتشيع المظالم بينهم، وتتحول في ساحات وجودهم إلى فساد وظلمة أو إلى فوضى وحيرة “فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ اَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا” [طه، 122].
وليس هناك في الدنيا ما يمكن أن يلتف حوله المسلمون اليوم ليتزودوا منه الهدى والنور والمعرفة والحكمة كالمساجد. المساجد بيوت الله فيها أذن أن يرفع ويذكر فيها اسمه، والمسجد من جهة أخرى هو بيت الأمة ومحور نشاطها ومركز وجودها. فحينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان همه الأول وشغله الشاغل أن يبني المسجد باعتباره ملاذا وحصنا للتقوى ومدرسة للعلم والحياة. فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الاهتمام بالمسجد حريصا على أن يلتقي بالمؤمنين فيه من الفجر إلى العشاء، وأن يزكيهم وأن يعلمهم وأن يجتمع بهم ويشاورهم فيما فيه خير الأمة، ومصلحة الجماعة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا حدث حادث أو نزلت نازلة بالمسلمين أمر أن ينادى في الناس “الصلاة جامعة”، فكانت المساجد بذلك مركز حياة المسلمين، ومنطلق تعلمهم ودراستهم وقضائهم وشؤونهم الخاصة والعامة، فظلت على مر التاريخ القطب الذي تدور حوله رحى الحياة، وتنفجر منها عيون العلم والهداية، وينبثق منها نور الإصلاح والرشاد..
أرسل تعليق