موارد النور.. (3)
قال الله تقدست أسماؤه: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” [النّور، 35].
ومن هذه الآداب المشي إلى المسجد بسكينة ووقار لقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا“.
ومن الآداب التقدم إلى الصف الأول لقوله صلى الله عليه وسلم: “لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لا ستهموا” والاستهام القرعة؛ وهذا الأدب يتأكد جدا في حق أهل العلم لدخولهم في قوله عليه الصلاة والسلام: “ليليني أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” قال النووي: “في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الأمام؛ لأنه ربما احتاج الإمام إلى الاستخلاف فيكون هو أولى”، وقال الإمام أحمد: “يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن ويؤخر الصبيان“.
ومن الآداب الحذر من تخطي رقاب الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تخطي الرقاب فقال للذي يتخطى: “اجلس فقد آذيت” وعده العلماء من الظلم والتعدي لحدود الله.
ومن ذلك أيضا الحذر من المرور بين المصلي وسترته؛ والمرور بين يدي المصلي وسترته حرام، أوعد الشارع مرتكبيه إيعادا شديدا فقال عليه الصلاة والسلام “لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه”.
ومنها ألا يتخذ له مكانا خاصا بالمسجد لا يصلي إلا فيه لما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يوطن الرجل في المكان في المسجد كما يوطن البعير، قال ابن الأثير معناه: “أن يألف الرجل مكانا معلوما مخصوصا به يصلي فيه حتى يحتكر جزءا منه يختص به“.
ومنها ألا يقيم أحدا من مكانه ليجلس فيه وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم “لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول افسحوا”.
ومنها الحذر من الكلام الباطل، والحذر من البيع والشراء في المسجد والحذر من رفع الصوت فيه حتى وإن كان رفع الصوت بقراءة القرآن لقوله صلى الله عليه وسلم: “ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفعن بعضكم على بعض بالقراءة” وفي رواية أخرى: “لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن“.
ومنها الحذر من نشدان الضالة في المسجد “من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا”.
ومن رسالة المسجد في الإسلام أنه يقصد إلى جمع الناس على طريقة واحدة في فهم الدين وممارسته وتطبيقه، والأصل في المسجد أنه يؤسس للوحدة الفكرية والثقافية والاجتماعية بين المسلمين.. وأن يجمع الناس لا أن يفرقهم، وأن يذكرهم بالأصول والإجماع والثوابت والمتفق عليه، لا أن يتحيز إلى الشذوذات والمختلف فيه.
ومن أهم ما نتعلمه من المسجد معنى النظام، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند القيام لكل صلاة “سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة” ويقول: “لا تختلوا فتختلف قلوبكم ولينوا بأيدي إخوانكم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا قرأ فأنصتوا” ويقول الذي يخفض ويرفع قبل الإمام “إنما ناصيته بيد شيطان” ومعنى هذه البيانات النبوية أن يكون الشخص مطواعا منسجما مع نظام الجماعة لينا بأيدي إخوانه.. والمرء الذي يأبى إلا أن يكون نشازا يرفع وحده ويخفض وحده ويصلي وحده دون ارتباط بنظام عام، هذا الشخص ليس جديرا بان يعيش في مجتمع إنساني “أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار” كثير من المسلمين حتى الآن لم يتعلموا معنى النظام من صلاتهم، ولذلك يعيشون حالة الفوضى في كثير من مسالك ومناشط حياتهم، ولاشك أن ثقافة الصف هي المقدمة الأولى لثقافة المجتمع المدني المنظم، والمؤسسات المنظمة، ولو حرص المسلمون على هذه الروح لجعلوا من أنفسهم ومجتمعاتهم نموذجا يحتذى في حفظ النظام والإبداع في سننه وقوانينه.
ومما نتعلمه في المسجد معنى المساواة؛ يجلس الكبير بجوار الصغير، والغني بجوار الفقير، والوزير بجوار الخفير، والحاكم بجوار المحكوم، والأستاذ والمثقف بجوار العامل والمزارع.. لا فرق بين هذا وذاك. وليس في المسجد لائحة تنظيم بروتوكول الزيارة أو الحضور كأن يكون الصف الأول للوزراء، والصف الثاني لأعضاء البرلمان، ولكن من حضر مبكرا أخذ مكانه في الصف الأول، وهكذا دون تمييز ولا تفضيل وأنتم تعرفون اليوم أن هذا المعنى الشفاف للمساواة لا تعرفه بعض المعابد حتى اليوم..
وختاما؛ أريد أن أقول إن مجتمع الاستهلاك وثقافته الليبرالية الرأسمالية استطاعت أن تفرغ المساجد من نورانيتها، وأن تشكل شعوبا وأجيالا مقطوعة صلتها بروح المسجد.. لقد هانت المساجد رسالة ومظهرا ووظيفة.. إننا ننظر إلى علاقة المسلمين ببيوت الله فنجد أن الصلاة خفت، وأن أناسا كثرا يصلون فرادى، وعلى عجل في جو مناقض أحيانا لقيم الصلاة، إنه ما لم تتحول المساجد إلى مصانع للرجال ورافدا أساسيا في التوحيد والتربية والتثقيف فلن نستطيع أن نبني مجتمعا مدنيا محترما.
أرسل تعليق