Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

من علامة الاعتماد على العمل، نقصان الرجاء عند نزول الزلل

      في هذه الحكمة المباركة، يشير الشيخ بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه، إلى مقام رفيع من مقامات التوكل على الله عز وجل، فيما جلَّ وفيما قلَّ، وهو مقام عماده رؤية عظمة الخالق وقصور المخلوق، وأن الإنسان وما يعمل خلق لله تعالى: “والله خلقكم وما تعملون” [سورة الصافات، الآية: 96]، وهو مقام يُمكّن من استدامة الاستبصار لعطاء الله الظاهر والباطن، وهو ما يهدي إليه قول سيدنا رسول الله صلى عليه وسلم: “لن يدخل الجنة أحد بعمله قط” قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: “ولا وأنا إلا أن يتغمّدني الله برحمته” [أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرضى، رقم5673]، وهذا المقام الذي يشير إليه الشيخ رحمه الله، يحصل فيه تجاوز مرحلة القيام بالعمل استيساقا بالقبول لأمر الله، إلى مرحلة التعامل بالعمل مع الله، والاستبصار بحقيقة أنه لا يُقدِر على العمل ويهدي إليه إلا الله، حيث يكون ذلك دُرجاً نحو الإحسان، الذي عماده أن يعبد المرء ربه كأنه يراه؛ فإن لم يكن يراه فإنه يراه.

      وهذه الحكمة المباركة مستمدة من مشكاة قوله تعالى: “واذكر عبدنا داود ذا اَلاَيد إنه أواب” [سورة ص، الآية: 16]، فسيدنا داود عليه السلام قد أثنى عليه رب العزة سبحانه في كتابه، بأنه ذو أيد؛ أي كثير العمل، وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حق سيدنا داود عليه السلام: “أَفْضَلَ الصِّيَامِ عِنْدَ اللهِ، صَوْمَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا” [أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب صوم الدهر، رقم 1976]، وقال الله سبحانه في حقه: “اِعملوا ءال داود شكرا وقليل من عبادي الشكور” [سورة سبأ، الآية: 13]، وقد كان عليه السلام، على عمله الكثير، كثير التوبة والإنابة “وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخرّ راكعا وأناب” [سورة ص، الآية: 23]، مما يدل على شموخ رجائه عليه السلام، ونبضه في الحالات، على كثرة عمله المؤيد المسدّد عليه السلام، وهو قصد الشيخ رحمه الله حين قال: “من علامة الاعتماد على العمل، نقصان الرجاء عند الزلل” فمن لم يُوَطّن له في هذا المقام، يستبدُّ به فقدان الرجاء، عند نزول الابتلاء بزلل بما تكسب أيدي الناس. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرسوخ في هذا المقام فيه تواشج بين العمل الكثير المتقن المُحلّق في واحات الإحسان، وبين التوبة المطّرحة بين يدي الله على عتبات الغفران، فقد صحّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لعائشة رضي الله عنها لما قالت له حين تَورُّمِ قدميه الشريفتين من كثرة القيام المتبتّل بين يدي الله تعالى: “لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا” [أخرجه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن، باب بَابُ “لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَاَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا” رقم 4837]، وقوله عليه الصلاة والسلام: “إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي اليَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً” [أخرجه الترمذي في سننه، كتاب التفسير، رقم3259]، هذا، وهو عليه الصلاة والسلام المجسد لأعلى درجات الكمال في حدود الإمكان البشري، فإذا استحضر العبد هذه الحقائق فإن ذاك مدخلُه لأن يكون من الذين يقرنون بين حسن العمل وكثرته، وبين استدامة الاعتماد على الله والتوبة إليه، وهو ما جمعه قوله تعالى: “إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين” [سورة البقرة، الآية: 220].

      وفي هذه الحكمة المباركة يجرِّد الشيخ بن عطاء الله رحمه الله مؤشرا مُنبِّها ناجعا، ينذر أهل النباهة ببداية سُيوخهم في مريج تربة الاعتماد على العمل، وهو مؤشر وجدان نقصان الرجاء عند نزول الزلل، مما قد يفضي بالعبد إن لم يتداركه ربه برحمته، إلى ما نُهي عنه من اليأس من رَوح الله والقنوط من رحمته، مما لا وجه له بعد قوله تعالى: “قل يا عبادي اَلذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا اِنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن ياتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن ياتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون” [الزمر، 50-52]، حيث قُرن عدم القنوط من رحمة الله، بالإنابة إلى الله تعالى والإسلام له، وهذا المؤشر المنبه، في غاية النفع لذوي استدامة التفحُّص لقلوبهم وطبِّها من أدوائها.

      والله المستعان

الأمين العام

للرابطة المحمدية للعلماء

أرسل تعليق