“من علامات موت القلب، عدم الحزن على ما فاتك من الموبقات، وترك الندم على ما فعلته من الزلات”.
من الحكم العطائية نسبة إلى العالم الفقيه والصوفي الجليل سيدي أحمد بن عطاء الله ال سكن د ري (1260-1309ﻫ) كتب الله -عز وجل- لها القبول عند عامة الناس وخاصتهم، وهي جواهر فريدة في أصول الأخلاق والسلوك ودرر تليدة في قواعد السير إلى ملك الملوك، لها من الشروح ما يند عن الحصر والعد، مغربا ومشرقا، وترجمت إلى عدة لغات.
القلب هو المضغة في الإنسان التي إن صلحت صلح الإنسان كله، وإن فسدت فسد الإنسان كله، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، ثُمَّ إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإنْ فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ”[متفق عليه] ، ولم يربط الفلاح في الآخرة في كتاب الله بشيء أكثر مما ربط بسلامة القلب كمثل قوله تعالى: “يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم” [سورة الشعراء، الآية: 89]، وفي هذه الحكمة المباركة يجلي الشيخ ابن عطاء الله رحمه الله ثلاثة أبعاد في ارتباطها بحياة القلب وموته؛
أولها: البعد الشعوري، فحديث الشيخ -رضي الله عنه- عن الحزن والندم في هذه الحكمة فيه إشارة إلى اثنين من أهم مناشط القلوب الحية والسليمة، والحزن المذكور هنا هو الحزن المحمود، وليس ذاك المذموم المنهي عنه في قوله تعالى: “ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون” [سورة النمل، الآية:70] وفي قوله تعالى: “لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم” [سورة الحديد، الآية: 23]، وهذا الحزن المحمود هو الذي ورد ذكره في قوله عز وجل: “ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون” [سورة التوبة، الآية: 92]، هذا الحزن الذي تنبثق عنه القلوب الحية، يترك فيها من الألم من جرّاء الموبقات ما يَفرق ويخاف المومنون منه، فيجعلهم يتجانفون عن المعصية، إذ هو حزن على التفريط في جنب الله، وتضييع حقوقه سبحانه، وهو الذي أحاط بإحسانه إيجادا وإنعاما وتفضلا.
كما أن الندم المذكور في هذه الحكمة ليس هو الندم المحبط والمثبط، وإنما المقصود هو الندم الذي يشكل الجذر المشاعري الذي تندهق منه آهات الاستغفار نورانية عارجة إلى السماء، في ظلال قوله تعالى: “إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه“[سورة فاطر، الآية:10]، وهو الندم الذي اعتبره علماؤنا ركنا من أركان التوبة النصوح لا تتم إلا به.
البعد الثاني: وهو البعد الزمني، الذي يبرز من خلال قول الشيخ بن عطاء الله رحمه الله “مافتك” فتمثل الزمان المنصرم في اعتبار، من أهم المؤشرات على حياة القلوب، فحين يغيب هذا التمثل يفقد الإنسان القدرة على الوصل الراشد لما يأتي من حياته بما فات منها، ويفضي إلى الانقطاع المذموم، وقد أثنى الله جل جلاله على أصحاب هذه القدرة وسماهم أولي الألباب في قوله تعالى: “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب” [سورة يوسف،الآية: 111]، فحين ينضاف هذا البعد الزمني إلى البعد الشعوري يستصحب ذوي القلوب السليمة الشعور بما فات من موبقات حزنا وندما عليها، معتبرين اعتبارا يحول دون تكرارها فيما يأتي.
البعد الثالث: وهو البعد العملي، الذي يبرز من خلال قول الشيخ رضي الله عنه “فعلته من الزلات”، والصلة بين القلب السليم وبين ما يوقعه الإنسان صاحبه من أفعال هي ما جلاّه التابعي الجليل، والسالك المُسلِّك الحسن البصري رضي الله عنه حين قال: “الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل”، ممّا يجلي مسؤولية الإنسان عن أفعاله ومركزية القلب في كلّ ذلك، فالقلب الحي السليم، بخلاف القلب الميت أو السقيم، لا تصدر عن صاحبه إلا الأعمال المرتضاة.
لقد جاءت هذه الحكمة خَميلة اعتبارية، مظفورة بظفائر ثلاث؛ شعورية، وزمانية، وعملية، وثلاثتها من أهم مؤشرات حياة القلوب التي تقدرها على الكر عملا وعبادة وزلفى إلى الله، والفرّ توبة وحزنا وندما فاستغفارا، قربى وأوبة إلى الله.
والله الهادي إلى سواء السبيل
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
-
Thank you
-
أحيي سيادة الدكتور أحمد عبادي على إشراقاته،
وأشكره على عمق آرائه وتحليلاته، وأتمنى له التوفيق في مشروعه وأعماله،
وأرجو منه المزيد من هذه التحليلات لترقيق القلوب وبعثها نحو العمل بالقرآن الذي يمثل النبراس المنير الذي يضيء طريق المؤمنين.حفظكم الله ورعاكم وسدد خطاكم.
والسلام عليكم
-
نشكر الدكتور عبادي على شرحه القيم للحكمة، ولكن أثارني تعليق السيدة نوال الزاكي فهي عملت على مزج الحكمة بواقع ثقافة الإنسان "اللي فات مات" فعلا هذه ثقافتنا أو ربما يقول المرء "إن الله غفور رحيم".
-
بسم الله الرحمن الرحيم
نشكر الأستاذ الكريم الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء على هذا الشرح الجليل
فهناك مثل شائع يقوله الناس لا ندري هل هو صحيح أم هي مندرجة ضمن ثقافة خاطئة وهي "اللي فات مات"
الحُزْنُ يكون على ما فات، ولهذا قُدِّمَ عدم الخَوْفُ على عدم الحُزْن في قول الله تعالى: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" [سورة البقرة، الآية: 38]؛ لأن انتفاء الخَوْف فيما هو آت آكد من انتفاء الحُزْن على ما فات. ومثْلُُ الحُزْن في كونه على ما فات: الأَسَفُ، وهو المبالغة في الحُزْن والغَضَب؛ كقوله تعالى: "لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ" [سورة اَل عمران، الآية: 153] . وكذلك الأَسَى ، وهو الحزن الشديد ؛ كقوله تعالى : "لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ" [سورة الحديد، الآية: 23]. أي: لكيلا يلحق الحُزْنُ الشَّديدُ على ما فات من الخير ، فيحدث عنه التَّسَخُّطُ وعدمُ الرضا بالمقدور . والمراد بالفرح هنا: المؤدي إلى البطر المنهي عنه في قوله تعالى: "لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ" [سورة القصص، الآية: 76]؛ فإن الحزن قد ينشأ عنه البطر؛ ولذلك ختم سبحانه آية الحديد بقوله: "وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ" [سورة الحديد،: الآية 23] .
فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يُلحِقه في نفسه الخيلاء والافتخار والتكبر على الناس؛ فمثل هذا هو المنهي عنه. وأما الحزن على ما فات من طاعة الله تعالى، والفرح بنعم الله والشكر عليها والتواضع، فهو مندوب إليه. -
ومن علامات إحياء القلوب والفكر:
قراءة إشراقاتك التي تدفعنا إلى الدعاء لك ولجميع العاملين في مؤسسة الرابطة المحمدية للعلماء بالخير واليمن والبركات.
.. اللهم آمين. -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحسن الله مثوبتكم وجزاكم الله خير الجزاءعلى ما تبذلونه من التذكير لمن نُسّي،
والمعونة لمن ذ َكر وذ َكر…
وندعو الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه،
والسلام عليكم ورحمة ُ الله -
السلام عليكم ورحمة الله
الذي أحفظه: (عدم الحزن على ما فاتك من الموافقات)، أي الموافقات للشرع؛ كحزن الإنسان على ترك بعض الطاعات، وبذلك تكون هذه الفقرة مقابلة للفقرة الثانية: (وترك الندم على ما فعلته من الزلات)، أي التقصير في فعل المأمورات، والجرأة على فعل المنهيات، والله أعلم.
التعليقات