Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

مفهوم التعبد وأثره في الاستهلاك

إن الاستهلاك كعملية فيزيولوجية تعتبر من منظور الإسلام تحقيقا لطاعة الله، وتجسيدا للامتثال للأمر الإلهي. فالوفاء بحاجات المطاعم والمشارب والملابس، لا ينفصل عن بعده المعنوي، وهو التعبد لله. “يأيها الذين ءَامنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون” [البقرة، 171].

تصحيح النية والقصد، وذلك بأن ينوي بها وجه الله والاستعانة على عبادته وتطبيق أوامره ونواهيه، ورجاء ثوابه ومرضاته، ففي الحديث عن أبي مسعود الأنصاري فقلت عن النبي فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة[1]. وفي رواية “إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أثبت عليها حتى اللقمة تجعلها في فِي امرأتك[2].

فالحديث يشير إلى جانب التعبد في النفقة على الاستهلاك، حيث تصبح هذه النفقة عبادة يتقرب بها إلى الله إذا صحت النية، وحسن القصد، واعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم صدقة لها ثواب رغم أن النفقة واجبة على الرجل، وهي حق للزوجة والأولاد، ولكنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نتعبد لله في كل أنشطتنا العادية، فنحولها من أمر عادي إلى أمر عبادي نؤجر عليه، إذا أخلصنا النية لله وصححنا القصد، ولذلك نبهنا صلى الله عليه وسلم أن العبادة إذا تجردت عن النية والقصد والتعبد قد تتحول إلى أمر عادي لا ثواب عليه: “رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر[3].

فالامتناع عن الصيام –وهو امتناع عن الاستهلاك في فترة زمنية– لا يعتبر تعبدا إذا خلي عن مقاصده. فصورة الفعل هي بالنسبة للمكلفين، ولكن القصد يختلف، فقد يكون الاستهلاك لحظ النفس وقد يكون لله.

فالباعث على الاستهلاك له تأثير في تحقيق التعبد أو عدمه، ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا البعد، فقد جاء في الحديث “كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة[4].

فالمخيلة داء باطني نفسي يحول عملية الاستهلاك من جانبها الإيجابي –وهو التعبد– إلى جانبها السلبي –وهو حظ النفس– ويفسر هذا المعنى حديث سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر منها شيئا خيلاء، لم ينظر الله إلى وجهه يوم القيامة[5].

فهذا التوجيه النبوي يسري على جميع مستويات الاستهلاك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة الأدعية التي تناسب أبواب الاستهلاك تربية لهم على استحضار هذا البعد التعبدي[6]. ويرشدهم إلى ترابط أجزاء التعبد بمكوناته كأكل الحلال وتصحيح القصد، فلا حرج على المسلم أن يتمتع بالملذات، ولكن يشترط أن يكون متعبدا لله بذلك حتى لا تكون صورة الفعل حظا من حظوظ النفس، وفي هذا المعنى يقول الغزالي: “ما صورته لحظ النفس، ويمكن أن يكون معناه لله، وذلك كالأكل والنكاح، وكل ما يرتبط به بقاؤه، وبقاء ولده، فإن كان القصد لحظ النفس فهو من الدنيا، وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى فهو لله بمعناه، وإن كانت صورته صورة  الدنيا[7].

إن ربط الاستهلاك بالتعبد يعكس أثر التصور العقدي في توجيه السلوك الاستهلاكي للمسلم، وتحريره من البواعث والدوافع الدنية، مما يجعل الدوافع الجسدية تتحرك مصحوبة بالأشواق الروحية.

يتبع في العدد المقبل

——————————————–

1. رواه البخاري في كتاب النفقات: إرشاد الساري، ج: 12 ص: 140 والإمام أحمد عن ابن مسعود، الفتح الرباني، كتاب النفقات، ج: 17 ص: 58.

2. أخرجه مسلم في كتاب الوصية، ج: 3 ص: 125 وأبو داود في كتاب الوصايا، ج: 3 ص: 112

3. رواه أحمد في المسند عن أبي هريرة، ج: 3 ص: 373.

4. رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم، انظر الجامع الصغير، ج: 2 ص: 96.

5. رواه أبو داود في كتابه اللباس: باب في قدر موضع الإزار، سنن أبي داود، ج: 4 ص: 60.

6. وهذا ما نجده في المدونات الحديثية التي تروي مجموعة من الأحاديث التي تتعلق بالأدعية التي يقولها المسلم في طعامه وشرابه ولباسه وركوبه.. وهي أحاديث تنبه المسلم إلى وجوب مراعاة مصدر النعمة التي حصل عليها، حتى لا يتكبر أو يطغى ويشعر بحقيقة عبوديته لله.

7. إحياء علوم الدين، ج: 3 ص: 389.

أرسل تعليق