Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

مفهوم التعبد وأثره في الاستهلاك

فتحقيق التعبد رهين بوجود الإخلاص، وحصول الإخلاص يتطلب تزكية الباطن، وذلك بتحليته بالأخلاق السنية، وتخليه عن الأوصاف الدنية، وتجلية الغفلة عن مرآة القلب حتى تكون البصيرة حية يقظة تهفو إلى خالقها، وتستجيب إلى أوامره ونواهيه، ويكون المسلم موصول العلاقة بخالقه في حركته وسكونه، وتكون علاقته بالأشياء محكومة بتلك القاعدة الذهبيــة “إثبات العلاقة الحسيـة المادية بالأشياء، ونفي التعــلق المعــنوي الباطني بها[1].

وهذا ما يصوره الإمام علي كرم الله وجهه في كتابه “إلى محمد بن أبي بكر والي مصر، فقد جاء فيه: “إن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح، أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم، وتيقنوا أنهم جيران الله غدا في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب من لذة[2].

إن جانب التعبد –والتقوى أحد تجلياته– كبعد قيمي يجعل المسلم يعيش الحضور الدائم مع الله، والمراقبة الكاملة لأحواله: “أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك”[3].

إن غفــلة الإنســان عن هــذه الحقيقــة تلحقه برتـبــة بهيــمــة الأنعــام يشــاركـهم فـي علائقـهـم الجسـمانيـة، وأوصافـهـم الحيوانـية، ولا يتميـز عنــهــم بجوانــبــه الروحيـــة[4]، وهذا ما يجسده الإنسان الاقتصادي في الفكر الغربي حيث أصبح الجسد لديه أقدس هدف استهلاكي، وأصبحت هوية المستهلك المعاصر تتلخص في الصيغة الآتية: أنا موجود بقدر ما أملك وما أستهلك.. فالإنسان الاستهلاكي اليوم رضيع لا يكف عن الصياح في طلب زجاجة الرضاعة، نزوع للاستهلاك[5].

إنها الغفلة عن الله، وانغلاق القلب عن تلقي المعاني الروحية السامية، مما يجعل الإنسان يعيش انفصاما نكدا بين مطالب الروح والجسد، إن غياب مقصد التعبد في السلوك الاقتصادي المعاصر جعل المستهلك أسير الجسد، يعيش كحمار الرحى، ينتقل من شهوة إلى أخرى[6]، وهو لا يخرج عن مطالب البدن، “ولقد ذَرأنا لجهنم كثيراً من الجن والاِنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم ءَاذان لا يسمعون بها أولئك كالاَنعام بل هم أضلُّ أولئك هم الغافلون” [الاَعراف، 179].

الرعاية لحقوق الله في التصرفات والأحوال، ومقتضى هذه القاعدة أن النعــم التي وهبت للمسلم تستوجب الشكر، وشكــر النعـم سبــب في زيادتــها “لئــن شكرتم لأزيــدنكم” [اِبراهيم، 9]. والشكر هو صرف النعم في مرضاة الله، وهو راجع إلى الانصراف إليه بالكلية بحيث يكون جاريا على مقتضى مرضاته[7]. ورعاية حقوق الله من هذا المنظور تقتضي تحقيق الانسجام، والتوافق بين الأبعاد الثلاثة:

• العقدية؛

• الأخلاقية؛

• التشريعية؛

أما على المستوى العقدي فرعاية حقوق الله تقتضي تحقيق العبودية المطلقة لله تعالى، وهذا المعنى يصوره قوله صلى الله عليه وسلم: “حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا[8].

أما على المستوى الأخلاقي، فالتحقق بالأخلاق الحميدة ورعايتها وتنميتها في الذات الإنسانية حتى تصير وصفا يرسخ في النفس، فتصدر عنه الأفعال بيسر وسهولة. فهي جمع بين ما يقتضيه مقام الحق، وبين ما يستدعيه وصف الخلق، أوهي امتثال لأوامر الربوبية في الباطن بحسب أوصاف العبودية في الظاهر. فهي اتصاف بأخلاق الظاهر والباطن، والنظر إلى الأوامر والنواهي باعتبار ما يوجبه ظاهرها، وباعتبار ما يختزنه باطنها “ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن” [الاَنعام، 152]، “وذَروا ظاهر الإثم وباطنه” [الاَنعام، 121].

وأما على المستوى التشريعي فتحقيق الامتثال للأوامر والنواهي، حيث توافق صورة الطاعة حقيقة مقصدها، وتكون الاستجابة لتطبيق الأوامر والنواهي استجابة سوية يصدق فيها الباطن الظاهر، ويكون قصد المكلف بالعمل موافقا لقصد الشارع في التشريع[9]. وهذا المستوى يحقق فيه الفرد المقاصد الحقيقية للطاعات.

إن هذه الأبعاد إذا تحقق فيها التعبد كان ذلك عنوانا على وجود شخصية إنسانية سوية قادرة على تحقيق الخلافة التي أناطها الله بالإنسان، وإن تغييب التعبد عن هذه الأبعاد الثلاث معناه حضور”الأنا الحيواني في الإنسان“، وتضخيم البعد المادي البهيمي فيه. وإذا غلب هذا الجانب الحيواني في الإنسان حطم الجانب القدسي فيه، وكان ذلك سببا في شقائه لأن “الاشتهاء كله مفاسد لما فيه من الآلام[10].

وقد حرص الإسلام على توجيه النشاط الاقتصادي –إنتاجا واستثمارا وإنفاقا واستهلاكا– بمنهجه، وربطه بتصوره العقدي للكون والحياة حتى يحكم به سلوك المجتمع وقيمه الأخلاقية[11]. وصور القرآن المجتمعات الإنسانية في جانبها الاقتصادي، وبين أثر التعبد لله في توجيه أنشطتها الاقتصادية، وأعطى نماذج من بني البشر ممن التزموا أو أعرضوا عن منهج الله، وما حل بهم من بركة وطمأنينة أو هلاك أو دمار.

إن ربط التعبد بجميع المجالات الاقتصادية، يعتبر خصيصة من خصائص الاقتصاد الإسلامي، يتميز بها عن غيره من المذاهب الاقتصادية، وهذا ما يجعل القاعدة الأخلاقية سهلة التطبيق في ظل الاقتصاد الإسلامي؛ لأنها تستند إلى أساس عقدي متين يتشكل من ثنائية الوجدان والعقل، ويعطي للسلوك الاقتصادي مفهوما مغايرا ومباينا لما ترسخ في المنظومة الاقتصادية الغربية من فصل للقاعدة الدينية عن القاعدة الأخلاقية. إن التعبد صفة ينبغي أن تلازم السلوك الاقتصادي حتى يكون سلوكا رشيدا، وما أروع هذه الحقيقة التي صورها الإمام علي حين بين مجموعة من المفاهيم الاقتصادية، وربطها ببعدها التعبدي “العلم دليل العمل والعقل قائد للخير، والهوى مركب المعاصي، والدنيا سوق الآخرة، والنفس تاجر، والليل والنهار رأس المال، والمكسب الجنة، والخسران النار”[12]، إنها مفاهيم اقتصادية تمتح من شجرة التعبد التي أصلها ثابت في القلوب، وثمرتها ظاهرة على الجوارح والسلوك، وأكلها حياة طيبة، وأمن وطمأنينة في العلاقات الاقتصادية بين أفراد المجتمع الإنساني.

إن الاستهلاك كسلوك اقتصادي في الإسلام محكوم بقاعدة التعبد، فالتعبد يعتبر الإطار المذهبي الذي يرسم للمسلم المنهاج الذي ينبغي أن يسلكه في حياته الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك فكل سلوك استهلاكي تجرد من التعبد اعتبر حظا من حظوظ النفس، واستهلاكا في هواها[13]. فالبعد التعبدي يشكل الأساس العقدي للاستهلاك، والموجه الحقيقي لتحقيق مقاصد التشريع في هذا الجانب، والضابط القويم لكبح جموح الإنسان نحو الاستغراق في الاستهلاك.

إن التعبد كمنظومة مذهبية تجعل مضمون الاستهلاك في النسق الاقتصادي الإسلامي يخالف مضمونه في الفكر الاقتصادي الغربي، ذلك أن الاستهلاك -في هذا الفكر– كعملية فيزيولوجية لا تهتم إلا بالجانب الحيواني في الإنسان، ولا شك أن النظرية التجزيئية تجعل الإنسان ذو بعد واحد وهو البعد المادي.

أما الاقتصاد الإسلامي فيقوم على أساس أن الإنسان بأبعاده المتعددة، فهو يتشكل من روح وجسد، والمعادلة الحقيقية تقتضي الجمع بين مطالب الروح والجسد، وتحقيق التوازن بينهما، “وابتغ فيما ءَاتاك الله الدار الاَخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا” [القصص، 77].

ويمكن رصد العلاقة بين التعبد والاستهلاك من خلال الأسس التالية:

• أن الاستهلاك عبادة، وتحقيق للطاعة، فالمقصد الأكبر للمستهلك المسلم هو تحقيق عبادة الله وشكره على آلائه ونعمه، وتجسيد الخلافة التي كلف بها، وحمل الأمانة التي خوطب بها، فالاستهلاك وسيلة لتجسيد العبودية، ونيل مرضاة الله، وليس إشباعا للجانب الحسي والبيولوجي في الإنسان فقط، وهو ما نجده في المنظومة الاقتصادية المعاصرة التي حصرت همها في البعد المادي حتى أصبح المستهلك المعاصر في الغرب يقول “أنا موجود بقدر ما أملك وما أستهلك[14]. وكأن غاية الإنسان في هذا الوجود هو الاستهلاك؛

• إن الغاية من الاستهلاك في الإسلام هي التعبد لله، يقول ابن القيم: “وأما المطاعم والمشارب والملابس والمناكح فهي داخلة فيما يقيم الأبدان، ويحفظها من الفساد والهلاك، وفيما يعود ببقاء النوع الإنساني، ليتم بذلك قوام الأجساد، وحفظ النوع، فتتحمل الأمانة التي عرضت على السموات والأرض، ويقوى على حملها وأدائها، ويتمكن من شكر مولي الأنعام ومسديه..”[15].

يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى..

———————————–

1. وهي مسألة ناقشها الفكر الإسلامي في باب الزهد، ونظرية الأسباب والمسببات وقد تناولها الغزالي والشاطبي بتفصيل.

2. نهج البلاغة: الشريف الرضي، شرح محمد عبده، ج: 3 ص: 333 دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى: 1410هـ/1990م.

3. رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى لله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان. وانظر البخاري بحاشية السندي، ج: 1 ص: 19.

4. يقول الراغب الأصفهاني: “ومن صرف همته كلها إلى تربية القوة الشهوية باتباع اللذة البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فخليق أن يلحق بأفق البهائم“. الذريعة إلى مكارم الشريعة: الراغب الأصفهاني، ص: 28 دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى: 1400هـ/1980م.

5. الإنسان بين الجوهر والمظهر، تتملك أو نكون إريك فروم، ترجمة سعد زهران، ص: 47-46 سلسلة عالم المعرفة، العدد: 140 ذو الحجة 1409 هـ.

6. وهو ما تجسده الحكمة العطائية، “لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرحى يسير، والذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل عنه” إيقاظ الهمم، ص: 92.

7. الموافقات للشاطبي، ج: 2 ص: 224.

8. صحيح مسلم بشرح النووي، ج: 1 ص: 233 دار الفكر، بدون تاريخ.

9. الموافقات للشاطبي، ج: 2 ص: 230.

10. قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، ج: 1 ص: 8.

11. أبحاث في الاقتصاد الإسلامي: محمد فاروق النبهان، ص: 16.

12. المخلاة: بهاء الدين محمد ين حسين العاملي، ص: 11 دار الفكر، طبعة دون تاريخ.

13. الموافقات: للشاطبي، ج: 2 ص: 137.

14. الإنسان بين الجوهر والمظهر: إيريك فروم، ص: 47.

15. مفتاح دار السعادة، ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن قيم الجوزية، ج: 2 ص: 5 دار الفكر، بدون تاريخ.

أرسل تعليق