مفهوم الاستخلاف عند الإمام القرطبي من خلال كتابه “الجامع لأحكام القرآن” (5/3)
يقول الباري تعالى في كتابه العزيز: “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْاَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءاَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ” [سورة الاَنعام، الآية: 165].
قوله تعالى: “وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الاَرض” “خلائف” جمع خليفة، ككرائم جمع كريمة. وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة. أي جعلكم خَلَفاً للأمم الماضية والقرون السالفة. قال الشمّاخ:
تصيبُهُم وتخطِئني المنايا وأخلُف في رُبوع عن رُبوعِ
“وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ” في الخلق والرزق والقوّة والبَسْطة والفضل والعلم. “دَرَجَات” نصب بإسقاط الخافض، أي إلى درجات. “لِّيَبْلُوَكُمْ” نصب بلام كَيْ. والابتلاء الاختبار؛ أي ليظهر منكم ما يكون غايته الثواب والعقاب. ولم يزل بعلمه غنِيًّا؛ فابتلى الموسِر بالغنى وطلب منه الشكر، وابتلى المعسر بالفقر وطلب منه الصبر. ويقال: “ليبلوكم” أي بعضكم ببعض. كما قال: “وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً” [سورة الفرقان، الآية: 20] على ما يأتي بيانه. ثم خوّفهم فقال: “إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب” لمن عصاه. “وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيم” لمن أطاعه. وقال: “سَرِيعُ الْعِقَابِ” مع وصفه سبحانه بالإمهال، ومع أنّ عقاب النار في الآخرة؛ لأن كل آت قريب؛ فهو سريع على هذا. كما قال تعالى: “وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ” [سورة النحل، الآية: 77]. وقال: “اِنهم يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً” [سورة المعارج، الآيتان: 6-7]. ويكون أيضاً سريع العقاب لمن استحقه في دار الدنيا؛ فيكون تحذيراً لمُواقِع الخطيئة على هذه الجهة. والله أعلم[1].
6- “وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصطَةً فَاذْكُرُوا ءَالَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” [سورة الاَعراف، الآية: 69].
قوله تعالى: “واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ”، “خلفاء” جمع خليفة على التذكير والمعنى، وخلائف على اللفظ. منّ عليهم بأن جعلهم سُكَّان الأرض بعد قوم نوح[2].
7- “ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الاَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ” [سورة يونس، الآية: 14].
قوله تعالى: “ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ” مفعولان. والخلائف جمع خليفة، وقد تقدّم آخر “الأنعام” أي جعلناكم سكاناً في الأرض. “مِن بَعْدِهِم” أي من بعد القرون المهلكة. “لِنَنْظُر” نصب بلام كي، وقد تقدّم نظائره وأمثاله؛ أي ليقع منكم ما تستحقون به الثواب والعقاب، ولم يزل يعلمه غيباً. وقيل: يعاملكم معاملة المختبر إظهاراً للعدل. وقيل: النظر راجع إلى الرسل؛ أي لينظر رسلنا وأولياؤنا كيف أعمالكم. و “كيف” نصب بقوله: تعملون؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله[3].
8- “هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الاَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا” [سورة فاطر، الآية: 39].
قوله تعالى: “هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الاَرض” قال قتادة: خَلَفاً بعد خَلَف؛ قَرْناً بعد قرن. والخلف هو التالي للمتقدّم، ولذلك قيل لأبي بكر: يا خليفة الله؛ فقال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله، وأنا راض بذلك. “فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ” أي جزاء كفره وهو العقاب والعذاب. “وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً” أي بُغضاً وغضباً. “وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً” أي هلاكاً وضلالاً[4].
9- “يَا دَوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ” [سورة ص، الآية: 26].
المسألة الأولى: قوله تعالى: “إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَرض” أي ملّكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلُف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين. وقد مضى في «البقرة» القول في الخليفة وأحكامه مستوفى والحمد لله.
المسألة الثانية: قوله تعالى: “فاحكم بَيْنَ الناس بالحق” أي بالعدل. وهو أمر على الوجوب، وقد ارتبط هذا بما قبله، وذلك أن الذي عوتب عليه داود طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل. فقيل له بعد هذا؛ فاحكم بين الناس بالعدل “وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى”، أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله “فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله”، أي عن طريق الجنة. “إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله” أي يحيدون عنها ويتركونها، “لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ” في النار “بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب” أي بما تركوا من سلوك طريق الله؛ فقوله: “نَسُوا” أي تركوا الإيمان به، أو تركوا العمل به فصاروا كالناسين. ثم قيل: هذا لداود لما أكرمه الله بالنبوّة. وقيل: بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته.
المسألة الثالثة: الأصل في الأقضية قوله تعالى: “يا دوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق” وقوله: “وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ” [سورة المائدة، الآية: 49] وقوله تعالى: “لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله” [سورة النساء، الآية: 105]، وقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاءَ بالقسطَ” [سورة المائدة، الآية: 8]. وقد تقدّم الكلام فيه.
المسألة الرابعة: قال ابن عباس في قوله تعالى: “يا دوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله”، قال: إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوًى، فلا تشته في نفسك الحق له لِيفلُج على صاحبه؛ فإن فعلتَ محوتُ اسمك من نبوّتي، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي. فدلّ هذا على بيان وجوب الحكم بالحق، وألاّ يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة، أو غيرهما. وقال ابن عباس: إنما ابتلي سليمان بن داود عليه السلام؛ لأنه تقدّم إليه خصمان فهوِي أن يكون الحق لأحدهما. وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: بلغني أن قاضياً كان في زمن بني إسرائيل، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علَما، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك؛ وإذا هو قصّر عرف ذلك، فقيل له: ادخل منزلك، ثم مدّ يدك في جدارك، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطاً؛ فإذا أنت قمت من مجلس القضاء، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه، وإن قصّرت عن الحق قصّر بك، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاماً ولا شراباً، ولم يفِض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحلّ الله له من أهل أو مطعم أو مشرب.
فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء، أقبل إليه رجلان يريدانه، فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه، وكان أحدهما له صديقاً وخِدْناً، فتحرّك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له، فلما أن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم، فمدّ يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمّر إلى السقف، وإذا هو لا يبلغه فخرّ ساجداً وهو يقول: يا ربّ شيئاً لم أتعمده ولم أردْه فبيِّنْه لي. فقيل له؛ أتحسبن أن الله تعالى لم يطلع على خيانة قلبك، حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك لتقضي له به، قد أردته وأحببته ولكن الله قد ردّ الحق إلى أهله وأنت كاره. وعن ليث قال: تقدّم إلى عمر بن الخطاب خصمان فأقامهما، ثم عادا فأقامهما، ثم عادا ففصل بينهما، فقيل له في ذلك، فقال: تقدّما إليّ فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه، فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك، ثم عادا فوجدت بعض ذلك له، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما. وقال الشعبي: كان بين عمر وأُبَيٍّ خصومة، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت، فلما دخلا عليه أشار لعمر إلى وسادته، فقال عمر: هذا أوّل جورك؛ أجلسني وإياه مجلساً واحداً؛ فجلسا بين يديه.
المسألة الخامسة: هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه؛ لأن الحكام لو مكِّنوا أن يحكموا بعلمهم، لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليّه ويهلك عدوّه إلا ادعى علمه فيما حكم به. ونحو ذلك روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر؛ قال: لو رأيت رجلاً على حدّ من حدود الله، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري. وروي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له: احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده. فقال لها: إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بيمين وشاهد؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “أنه اشترى فرساً فجحده البائع، فلم يحكم عليه بعلمه، وقال: “من يشهد لي” فقام خزيمة فشهد فحكم” خرّج الحديث أبو داود وغيره. وقد مضى في “البقرة”[5].
———————–
1. الجامع لأحكام القرآن، 2/2072.
2. الجامع لأحكام القرآن، 2/2146.
3. الجامع لأحكام القرآن، 2/2590.
4. الجامع لأحكام القرآن، 2/4629.
5. الجامع لأحكام القرآن، 2/4785.
أرسل تعليق