مفاهيم ومصطلحات لها ارتباط بالمنهج المقاصدي
لا شك في أن من أهمّ الطرق الموصلة إلى العلم “معرفة اصطلاحات أهله”[1]، وأن المصطلح هو “اللبنة الأولى من كل علم، بما هو مدار كل علم، به يبدأ وإليه ينتهي”[2]، بل إذا شئنا الحقيقة فإن “المصطلح هو العلم. ذلك قول يجري مجرى القاعدة في جميع العلوم، وللعلم الشرعي منها خصوص أيُّ خصوص، من حيث ينفرد فيه المصطلح بِمَيِّزَاتٍ تجعله أكثر اكتنازا بما هو تصورات وقضايا وإشكالات”[3].
وإذا أردنا أن نحدّد للمقاصد مصطلحات ومفاهيم نجعل له بها حدا يتميز عن غيره ونستوعب ماهيته ونقف عند خصوصيته، فلا يمكننا أن نبتعد عن المصطلحات التالية في فهم واستيعاب المنظومة المقاصدية من خلالها، وهي: الفكر والعقل والنظر والاجتهاد والاستنباط والفقه.. وما ينتمي إليها من مفاهيم أخرى، تخدم نفس المعنى.
مفهوم العرف
العرف “ما استقر في النفوس بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول”[4]، وهو دليل شرعي عند جميع المذاهب الفقهية، فكثيرة هي الأحكام الشرعية التي بنيت على العرف. ومن الأدلة الشرعية على اعتباره قوله تعالى: “خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ” [الاَعراف، 199].
وهناك كثير من القواعد الفقهية التي بنيت على العرف، منها:
• “العادة محكمة”؛
• “استعمال الناس حجة يجب العمل بها”؛
• “المعروف عرفا كالمشروط شرطا”؛
• “التعيين بالعرف كالتعيين بالنص”؛
• “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”[5].
وقد وردت جملة من القواعد الفقهية التي تؤكد على أهمية العرف والعادة في علاقتهما بتحديد نوع الحكم الشرعي الوضعي، منها ما ذكرته مجلة الأحكام العدلية من قبيل:
• الحقيقة تترك بدلالة العادة؛
• والممتنع عادة كالممتنع حقيقة؛
• والعادة تعتبر فيما لو اطردت أو غلبت؛
• والعبرة للغالب الشائع لا النادر…”[6].
والعرف من الأصول المعتمدة لدى علمائنا، فابن بطال مثلا –وهو من علماء المالكية بالأندلس- يرى فيه سنة جارية لها أساس من الشرع، ذكر ذلك في باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم، قال: “وأما أجرة الحجام فأكثر العلماء يجيزونها، هذا إذا كان يتعاطاه مما يرضى به؛ فإن أعطي ما لا يرضى به فلا يلزم، ورد إلى عرف الناس. ومما يدل على أن العرف سنة جارية قوله صلى الله عليه وسلم لهند: “خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ”[7]. فأطلق لها أن تأخذ من متاع زوجها ما تعلم أن نفسه تطيب لها بمثله، وكذلك أطلق الله لولي اليتيم أن يأكل من ماله بالمعروف”[8].
كما يقرر أن العرف أصل معمول به عند العلماء، يقول: “العرف عند الفقهاء أمر معمول به، وهو كالشرط لازم في البيوع وغيرها، ولو أن رجلا وكل رجلا على بيع سلعة فباعها بغير النقد الذي هو عرف الناس لم يجز ذلك، ولزمه النقد الجاري، وكذلك لو باع طعاما موزونا أو مَكيلا بغير الوزن أو الكيل المعهود، لم يجز، ولزمه الكيل المعهود المتعارف من ذلك”[9].
كما نجد قبله ابن حبيب أيضا يعتمد العرف ويتخذه دليلا في استنباطه للأحكام الشرعية، من ذلك ما ورد في المنتقى عند الكلام عن الوصية، وفي الواضحة عن أصبغ قال: لو قال أعطوه طعاما ما ولم يقل قمحا ولا شعيرا، فليعط من القمح، لأنه الغالب في الناس، ووجه ذلك الاعتبار العرف، وذلك يتقرر بالشرع وعرف المخاطب”[10].
ويعرض لارتباط العرف بالمنهج المقاصدي مراعاته عند الاختلاف، فحين يقع الاختلاف بين الناس، فإن الرجوع فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة أو إجماع إلى ما تعارفوا بينهم فـ”كل ما تَشَاحَّ فيه الأجير والمستأجر، حملوا فيه على سنة الناس وما تعارفوا في ذلك”[11]، وهو الأمر المبيّن أن كل ما وقع فيه الخلاف، فالمرجع فيه إلى العرف، لما يتضمنه من معرفة حال الناس. ولذلك حين اختلف الناس في كنس مراحيض الدور المكراة على من يجب، قال ابن القاسم في أمهاته: “على أرباب الدور، وروى عنه أبو زيد بن أبي الغمر: إن كنسها على الساكن، إلا أن تكون الدار من دور الفنادق التي يخرج قوم ويدخل قوم، فيكون الكنس على رب الدار.قال عبد الملك بن حبيب: يحملون في ذلك على سنة الناس ببلدنا، وسنتهم ببلدنا أن يكون ذلك على رب الدار”[12].
فمجرى العرف اقتضى عند ابن حبيب أن يرجع في الاختلاف في كنس الدار المكارة على رب الدار، الذي يتحمل ما تحمله الدار من أوساخ وأدران.
وفي مثال آخر عند ابن عبد البر النمري، يتضح الأمر، يقول رحمة الله تعالى عليه: “واختلف العلماء في أكثر الحمل، فروى ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل. ذكره الدارقطني. وقالت جميلة بنت سعد -أخت عبيد بنسعد- وعن الليث بن سعد: إن أكثره ثلاث سنين، وعن الشافعي أربع سنين، وروي عن مالك في إحدى روايتيه والمشهور عنه خمس سنين، وروي عنه لا حد له، ولو زاد على العشرة أعوام، وهي الرواية الثالثة عنه، وعن الزهري ست وسبع، قال أبو عمر ومن الصحابة من يجعله إلى سبع، والشافعي مدة الغاية منها أربع سنين، والكوفيون يقولون سنتان لا غير، ومحمد بن عبد الحكم يقول سنة لا أكثر، وداود يقول تسعة أشهر لا يكون عنده حمل أكثر منها، قال أبو عمر وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من أمر النساء وبالله التوفيق”[13]. والرد إلى أمر النساء رد إلى أعرافهن في أكثر مدة الحمل.
والحمد لله رب العالمين
———————————————-
1. الموافقات، الشاطبي، (م. س)، 1/97.
2. المصطلح الأصولي عند الشاطبي، فريد الأنصاري، معهد الدراسات المصطلحية والمعهد العلمي للفكر الإسلامي، ط.1، 1424هـ/2004م، ص: 11.
3. المصطلح الأصولي عند الشاطبي، فريد الأنصاري، (م. س)، ص:11، بتصرف.
4. التعريفات، الجرجاني، ص: 163، (م. س).
5. المدخل الفقهي العام، مصطفى الزرقا، 1/135، (م. س).
6. التغير في الفتوى، الأنماط والعوامل، يحيى محمد، ص: 256، سلسلة قضايا إسلامية معاصرة.
7. رواه البخاري في صحيحه كتاب البيوع، حديث 2209-2211. ومسلم في كتاب الأقضية 3/1338 حديث رقم 7، (1714).
8. شرح صحيح البخاري، ابن بطال؛ 6/334. (م. س).
9. شرح صحيح البخاري، ابن بطال، 1/117. (م. س). وأبو الحسن بن بطال، ص: 164-165. (م.س).
10. المنتقى، الباجي، 8/75، (م. س).
11. أصول الفتيا، ابن حارث. ص: 147. (م. س).
12. أصول الفتيا، ابن حارث، ص: 149. (م. س).
13. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 5/202، (م. س).
أرسل تعليق