مدخل لدراسة المذهب المالكي.. (23)
- ذ. مصطفى بوزغيبة
- باحث بمركز الإمام الجنيد
عمل أهل المدينة
يعد عمل أهل المدينة من المباحث الأكثر غموضا وإشكالية إلى درجة أن الإمام الشافعي على جلالة قدره وصحبته لمالك قال: “وما عرفنا ما تريد بالعمل إلى يومنا هذا، وما أرانا نعرفه ما بقينا“[1].
وقال الزركشي في البحر المحيط: “ولم تزل هذه المسألة موصوفة بالإشكال“[2].
وقد حاول العلماء والدارسون فهم المقصود من عمل المدينة، وإعطاء صورة عن مفهومه، على الرغم من أن فقهاء المذهب المالكي أنفسهم اختلفوا في تحديد ماهيته، وقد وقفت على تعريف يبين المقصود ويكون أقرب لمعنى عمل أهل المدينة عند الإمام مالك، وهو تعريف د. الشعلان حيث قال: “عمل أهل المدينة هو ما اتفق عليه العلماء والفضلاء بالمدينة كلهم أو أكثرهم في زمن مخصوص سواء أكان سنده نقلا أم اجتهادا“[3]. فمفهوم “ما” الواردة في التعريف فهي اسم موصول يفيد العموم في موضوع العمل الذي يمكن أن يكون قولا مثل صيغتي الآذان والإقامة، وقد يكون فعلا، مثل الأوقاف التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وقد يكون إقرارا، مثل إقراره صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة عقد السلم وصار عليه العمل، وقد يكون تركا، مثل ترك دفع الزكاة في الخضراوات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذها من الخضراوات، وقد يكون تحديد مقدار معين، مثل مقدار الصاع النبوي، وقد يكون تحديد مكان من الأمكنة، مثل تحديد مكان ميقات أهل المدينة، أو تحديد مكان المنبر النبوي.. أما مفهوم “اتفق” أي أن الاتفاق يكون بأي وجه من الوجوه، كالقول من الجميع، أو الفعل من الجميع، أو القول من بعض الناس والفعل من بعضهم الآخر، أو القول أو الفعل أو هما معا من بعض الناس والسكوت والإقرار من الباقين. أما مفهوم “العلماء والفضلاء بالمدينة” فهذا تقييد في التعريف بحيث أن الإمام مالك إنما يعتبر العمل صادر من هذه الفئة دون العامة، يقول ابن عبد البر مؤكدا ذلك: “والذي أقول به أن مالكا رحمه الله إنما يحتج في موطئه وغيره بعمل أهل المدينة، يريد بذلك عمل العلماء والخيار والفضلاء، لا عمل العامة السوداء“[4]، وهنا يمكن الرد على من عدد مثالب أهل المدينة خصوصا العامة منهم، وبنى عليه حكما وهو أن عملهم ليس بحجة، وذلك بكون مالك لم يعتبر عمل العامة وإنما عمل العلماء والفضلاء بالمدينة الذين عاشوا فيها وتربوا في أحضانها وتعلموا منها. ومفهوم “كلهم” أي أن عمل أهل المدينة يتفقون عليه كلهم ولا يوجد لهم مخالف داخل المدينة، وهو أعلى درجات العمل. ومفهوم “أو أكثرهم” أي يتفق أغلب أهل المدينة على مسألة ما، ولو وُجد مخالف لهم، فهو يدخل ضمن عمل أهل المدينة عند الإمام مالك، وبهذا نستشف أن عمل أهل المدينة عند مالك ليس إجماعا كما يعتبره المخالفون وشنعوا على مالك في ذلك. وقوله في التعريف “في زمن مخصوص” أي أن العمل عند الإمام مالك مقيد بزمن مخصوص وليس في كل زمان. وقوله “سواء أكان سنده نقلا أم اجتهادا” أي أن هذا العمل قد يكون سنده نقلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون سنده اجتهادا من طرف علماء أهل المدينة..
يتبع في العدد المقبل..
————————————————————
1. الأم، لمحمد بن إدريس الشافعي، تصحيح: محمد زهري النجار، الناشر، مكتبة الكليات الأزهرية، شركة الطباعة الفنية المتحدة، مصر، ط: 1، 1381هـ/1961م، ج: 7/231.
2. البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين محمد الزركشي، قام بتحريره، عمر سليمان الأشقر، وراجعه: عبد الستار أبو غدة، ومحمد سليمان الأشقر، ط: 1، 1409هـ/1988م، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويت، 4/488.
3. أصول فقه الإمام مالك أدلته النقلية، عبد الرحمن بن عبد الله الشعلان، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط: 1، 1424هـ/2003، 2/1042.
4. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر ين يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، تحقيق: مجموعة من العلماء والأساتذة، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 7/222.
أرسل تعليق