مدخل لدراسة المذهب المالكي.. (19)
- ذ. مصطفى بوزغيبة
- باحث بمركز الإمام الجنيد
القياس
بعد الحديث عن تعريف القياس وحجيته، وأنه المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي، ننتقل إلى الحديث عن مجال القياس عند الإمام مالك.
اعتمد الإمام مالك القياس في اجتهاده بل وتوسع فيه، فمن المعلوم أن بعض العلماء ضيقوا من مجال استعمال القياس بينما البعض الآخر توسعوا في هذا الجانب، ومن مظاهر توسع الإمام مالك في القياس نذكر:
- تخصيص العموم بالقياس؛
- تجويزه القياس في الحدود والكفارات، والمقدرات، والرخص؛
- القياس على الفرع المقيس؛
- تقديم القياس على خبر الواحد..
ومن المعلوم أن آراء الأصوليين في هذه المسائل المذكورة ليست محل اتفاق بينهم، بل هي محط خلاف ولكل أدلته يطول سردها في هذا المقال، وأكتفي بالحديث عن نموذج لكل مسألة.
1. تخصيص العموم بالقياس
ذهب الإمام مالك إلى جواز تخصيص العموم بالقياس، يقول القرافي موضحا مخصصات العموم: “وهي عند مالك خمسة عشر، فيجوز عند مالك وأصحابه تخصيصه بالعقل.. وبالقياس الجلي والخفي للكتاب والسنة المتواترة، ووافقنا الشافعي، وأبو حنيفة، والأشعري، وأبو الحسين البصري”[1].
يقول ابن الحاجب: “الأئمة الأربعة والأشعري وأبو هاشم وأبو الحسين على جواز تخصيص العموم بالقياس“[2].
ومثال تخصيص العموم بالقياس عند الإمام مالك، ما روي عنه أنه قاس البكر العانس بالثيب، بحيث تستأذن بالنطق كما تستأذن الثيب، والعلة أن العانس لها معرفة بالنكاح وشؤون الزواج اكتسبتها بطول العمر ومخالطتها بالثيب، وقد خصص بهذا القياس عموم قوله صلى الله عليه وسلم: “والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها“[3].
1. القياس في الحدود والكفارات والمقدرات والرخص
اختلف العلماء في مسألة إجراء القياس في الحدود والكفارات والرخص، فقد ذهب الجمهور إلى جوازه، وخالف في ذلك الحنفية وبعض العلماء، قال الباجي: “إذا ثبت أن القياس دليل شرعي فإنه يصح أن تثبت به الحدود والكفارات والمقدرات والأبدال، وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يثبت شيء من ذلك بالقياس“[4].
وقال أبو الخطاب الحنبلي: “يجوز إثبات الكفارات والحدود والمقدرات بالقياس إذا علم علة ذلك ولم يمنع منه مانع“[5].
أ. القياس في الحدود
ذهب مالك إلى جواز القياس في الحدود، إذا كانت مما يعقل معناه، ومثال اعتماده على القياس في باب الحدود، قياسه النباش على السارق في وجوب القطع، والعلة الجامعة هي سرقة المال البالغ للنصاب في حرز مثله، والقبر عند مالك هو بمثابة الحرز.
قال مالك في الموطأ: “والأمر عندنا في الذي ينبش القبور أنه إذا بلغ ما أخرج من القبور ما يجب فيه القطع فعليه فيه القطع.. وذلك أن القبر حرز لما فيه كما أن البيوت حرز لما فيها“[6].
ب. القياس في الكفارات
يرى الإمام مالك جواز القياس في الكفارات، فقد أوجب على من أفطر في نهار رمضان بالأكل والشرب عمدا من غير علة قياسا على من أفطر رمضان بالجماع، والعلة الجامعة هي انتهاك حرمة الشهر[7].
ومثاله أيضا، قياسه المشتركين في إصابة الصيد في الحرم على المشتركين في قتل إنسان خطأ، في وجوب الكفارة كاملة على كل واحد منهم، بجامع الاشتراك.
فقد جاء في الموطأ: “قال مالك في القوم يصيبون الصيد جميعا وهم محرمون أو في الحرم، قال: أرى أن على كل إنسان منهم جزاءه، إن حكم عليهم بالهدي، فعلى كل إنسان منهم هدي، وإن حكم عليهم بالصيام كان على كل إنسان منهم الصيام، ومثل ذلك؛ القوم يقتلون الرجل خطأ فتكون كفارة ذلك عتق رقبة على كل إنسان منهم، أو صيام شهرين متتابعين على كل إنسان منهم“[8].
ت. القياس في المقدَّرات
جوز الإمام مالك القياس في المقدَّرات، ولم ير في ذلك بأسا، فقد قاس أقل الصداق على أقل نصاب السرقة، والعلة الجامعة أن كلا من البضع واليد عضو يستباح بقدر من المال يكون معلوما ومقدرا، وإذا كان أقل الصداق غير محدد فلا بد من تحديده بقيمة من المال يكون له شأن وأهمية، جاء في الموطأ: “قال مالك لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينار، وذلك أدنى ما يجب فيه القطع“[9].
ث. القياس في الرخص
لابد من الإشارة في البداية إلى تحديد موطن الاتفاق بين الفقهاء، وموطن الخلاف بينهم في هذه المسألة، حتى لا نسقط في التعميم ونخرج عن المقصود، فقد اتفق الفقهاء على منع القياس فيما لا يُعقل التخصيص مثل تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالزواج بتسع نسوة فهذا لا يقاس عليه، أو عُقل، وكان عديم النظير مما يتناوله النص الشرعي كرخصة القصر في السفر، والمسح على الخفين.
وأما محل النزاع بين الفقهاء بل وداخل المذهب المالكي نفسه هو إذا كان المستثنى معقول المعنى ووجد له نظائر، فنجد الإمام مالك من خلال بعض اجتهاداته ينحو إلى جواز القياس في هذه الحالة، وممن وافقه ابن القصار والقاضي إسماعيل والباجي، قال الباجي: “يجوز القياس على ما ورد به الخبر مخالفا للقياس، وبه قال القاضي أبو بكر؛ لأن ما ورد مستثنى من أصل كلي يعتبر أصلا بنفسه، فجاز أن يعلل ويقاس عليه، كما يجوز ذلك فيما لم يستثن من أصل آخر“[10].
وممن ذهب إلى المنع مطلق ابن العربي[11]، ونسبه الباجي إلى بعض المالكية[12]، ونسبه القاضي عبد الوهاب إلى أكثر المالكية[13].
ومثال ذلك من فقه مالك بيع العرايا، فقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق“[14] فقد علل مالك ذلك برفع الضرر عن المعرِّي والرفق بالمعرَّى في كفايته[15]، والعرية وردت في الرطب لكن مالكا قاس عليه العنب فقط –في رواية- وفي رواية أخرى قاس عليه كل ما ييبس ويُدخر من الثمار، مثل العنب والجوز، وكل ما توجد فيه العلة، قال مالك في المدونة: “العرايا في النخل وفي جميع الثمار كلها مما ييبس ويُدخر، مثل العنب والتين والجوز واللوز وما أشبهه مما ييبس ويدخر”[16].
يتبع في العدد المقبل بحول الله..
——————————————————————–
1. شرح تنقيح الفصول، 202-203.
2. مختصر المنتهى بشرح العضد، 2/153.
3. الموطأ، مالك، كتاب النكاح، باب: استئذان البكر والأيم في نفسها.
4. الإشارة، 25.
5. التمهيد، لأبي الخطاب الحنبلي، 3/449.
6. الموطأ، كتاب الحدود، باب: جامع القطع.
7. ينظر: المدونة الكبرى، 1/185.
8. كتاب الحج، باب: جامع الفدية.
9. كتاب النكاح، باب: ما جاء في الصداق والحباء.
10. العدة في أصول الفقه، 4/1403.
11. القبس، 2/803.
12. إحكام الفصول، 585.
13. البحر المحيط، 5/99.
14. الموطأ، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في بيع العرية. صحيح البخاري، كتاب: البيوع، باب: بيع المزابنة.
15. ينظر المدونة الكبرى، 3/273-274.
16. المدونة الكبرى، 3/272.
أرسل تعليق