لسان القرآن الكريم محكوم لا حاكم
القرآن الكريم ليس “ظاهرة” كما أشيع في بعض كتابات الفكر الإسلامي الحديث، ولا يمكن له أن يكون كذلك؛ لأن تعريفات مصطلح “الظاهرة” هنا في أحسن أحوالها أن القرآن كتاب “يستحق الاهتمام”، سواء تعلق الأمر بنصوصه أو بأسباب نزوله أو بظروفه التاريخية والاجتماعية وما شابه ذلك..!! وحقيقة الأمر إن القرآن الكريم كتاب رب العالمين بكل المعاني السامية المتعارف عليها بين علماء الإسلام، نزل به الروح الأمين على رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام نورا وهدى للعالمين.
كما أن اصطلاح “النص الديني” المتداول كذلك في حقل الفكر الإسلامي لا يتلاءم وخصائص القرآن الكريم، فمن المعلوم أن هذا التعبير وظف في سياق أيديلوجي، الغرض منه إفراغ هذا “النص الديني” من دلالات معانيه الخاصة، والسماح بمناقشته وتأويله ونقده ليتمكن القارئ من التحرر من إكراهاته وإملاءاته..!!
لست ضد استعمال مصطلح “الظاهرة القرآنية” أو “النص الديني” أو ما شابه ذلك في الكتابات العلمية، ولكن قصدت تنبيه الباحثين في الفكر الإسلامي المشتغلين بالقرآن الكريم على الأنساق الدلالية والوظيفية للمفاهيم والمصطلحات المتداولة في هذا الصدد؛ لأن هذا الأمر يمكن قبوله من أطراف بعيدة عن مجال البحث الأكاديمي في الفكر الإسلامي، فلها مطلق الحرية في التعبير عن وجهة نظرها في النصوص الدينية بشتى أنواعها ومناهجها: قراءة وتفسيرا وتأويلا وفهما ونقدا وتقويما، وغاية الأمر من بحثها أنه يلزمها ولا يلزم القرآن الكريم والتصور الإسلامي في شيء.
وهذا الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يمكن الحديث عنه في سياق الفكر الإسلامي نفسه. ونضرب لذلك مثلا بمفردة “نصوص” في الحقيقة التي قرر فيها الإمام ابن رشد في كتابه بداية المجتهد على أنه ما دامت الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية و”النصوص” والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى، فإذا كان يقصد من كلامه هذا نصوص القرآن الكريم، فهذا الكلام يجب أن يعاد فيه النظر؛ لأن نصوص القرآن هي التي لا تتناهى، أما الأفعال فتتناهى بتناهي فاعليها؛ لأن القرآن مطلق والفعل نسبي، ومحال أن يقابل النسبي المطلق.
وحين القول بأن القرآن مطلق فهذا يعني استجابته للنوازل والمستجدات في سياق التطور التاريخي أمر في غاية الإمكان، فهو النور الذي انطلق إشعاعه مع بعثة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وسيستمر عبر العصور في أداء دوره التنويري لكل من تدبر آياته المسطورة المقروءة وآياته المنظورة المشاهدة، التي تتكشف عن حقائق ومكنونات كلما طور الإنسان من مناهج البحث فيه.
إن لسان القرآن الكريم لسان عربي مبين، وقد اجتهد عدد من الباحثين في محاولة فهم الحكمة من اختياره ليكون وعاء الوحي، فتعددت الآراء وتنوعت واختلفت، ولعل الرأي الذي يلم نوع إلمام بسر هذه الحكمة هو أن العربية لغة حمّالة لأوجه عدة، فمعظم اللغات الأخرى تهدف إلى الوضوح والبيان والتواصل، أما اللسان العربي فيضيف إلى هذه العناصر الأساسية عنصر الاختلاف التنوعي الذي يتساوق واختلاف والأحوال والأشخاص والأزمنة والأمكنة.
وإذا ما حمّل هذا اللسان العربي بمعاني القرآن الكريم طعّمته بشحنة نورانية قوية تجعله يستوعب في كل عصر نوازله وحوادثه، ويتجدد بدورتين معرفيتين: دورة داخلية من حيث هو لسان عربي، ودورة خارجية بانفتاحه على دلالات ومعاني جديدة تتجاوز الدرس اللساني الوضعي.
يجب التذكير والتنبيه على أن الوحي هو مصدر المصطلحات القرآنية، ومن هنا فالبحث في دلالاتها يجب أن ينطلق من مشكاة الوحي ذاته وليس العكس. وبمعنى أوضح إن الحاكمية في التصور الإسلامي للقرآن وليس للسانه العربي. وبناء عليه فالمطلوب في فهم وبيان وتفسير النصوص القرآنية أن تعرض في سياقها القرآني أولا، ثم بعد ذلك تعرض على السياق اللغوي وغيره من السياقات المساعدة على الفهم السليم والصحيح لمعاني كلام رب العالمين.
وتجدر الإشارة كذلك أن المنهج الأسلم للتعامل مع القرآن الكريم هو الانطلاق بداية من القرآن في اتجاه قارئه، ثم العودة مرة أخرى من القارئ إلى القرآن. وهذا لا يعني تبعية القارئ للنص القرآني كما يحلو للبعض أن يسميه، ولكن سلطة القرآن من حيث هو وحي تفرض على المتعامل معه هذا التعامل المنهجي الذي من شأنه أن يصل بنا إلى نتيجتين: أولها حفظ النص القرآني من التأويلات غير المرغوب فيها، وثانيا فتح باب استكناه معانيه في زمن قراءته، أيا كان هذا الزمن؛ لأن مفردات القرآن الكريم ليست مفردات لفظية فقط، وإنما هي قبل هذا كله مفاهيم قدسية كاملة تترك أثرها في كل ظرف تاريخي بكل تجلياته، علمها من علمها وجهلها من جهلها.
-
جزاك الله خيرا استاذنا الفاضل
-
السلام عليكم أستاذي، بارك الله فيكم وفي علمكم هكذا عهدناك دائما متميزا في بحوثك ومداخلاتك ومحاضراتك حفظك الله ورعاك أستاذي…
-
بارك الله فيكم أستاذ وحفظكم ورعاكم ودمتم متألقين
التعليقات