لا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله، فإن من عرف ربه استصغر في جنب كرمه ذنبه
في هذه الحكمة المباركة يفتح الشيخ ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه فتحا جماليا كريما أبواب رحمة الله أمام عموم الإنسان، إذ مَن مِن بني الإنسان لا يخطئ “كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ” [سنن الدارمي، ح:2645 ] وهو فتح مستمد من مشكاة قول الله تعالى: “قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم” [سورة الزمر، الآية: 52]، وقوله تعالى: “اِلا من تاب وأمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما” [سورة الفرقان، الآية: 70].
إلى درجة أن أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طَوِيلٌ شَطْبٌ مَمْدُود، فَقَالَ: “أَرَأَيْتَ رَجُلا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلا دَاجَةً إِلا اقْتَطَعَهَا بِيَمِينِه، فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: هَلْ أَسْلَمْتَ؟ قَالَ أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّه، قَالَ: نَعَمْ، تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ الشَّرَّاتِ يَجْعَلُهُنَّ اللَّهُ لَكَ خَيْرَاتٍ، قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى”، وقال صلى الله عليه وسلم: “الْمَرِيضُ تَحَاتُّ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ” [أخرجه أحمد في مسنده، 27/215]، وقال الأمر نفسه عن تصافح المسلمين ولاسيما بعد خصام.
كما أن في كتاب الله سبحانه وفي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الكثير من المبشرات بواسع مغفرة ذي الجلال والإكرام، كقوله تعالى: “يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم” [سورة الاَحزاب، الآية:70-71]، وقوله عز وجل: “ليلة القدر خير من ألف شهر” [سورة القدر، الآية:3]، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أَبو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ، قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ” [أخرجه مسلم في صحيحه، ح1162]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا مَثَلُ هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، مَثَلُ نَهْرٍ جَارٍ عَلَى بَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ ، فَمَاذَا يُبْقِينَ مِنْ دَرَنِهِ ؟”. [مسند الإمام أحمد بن حنبل، ح: 9480] وقوله عليه الصلاة والسلام: “من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” [أخرجه مسلم في صحيحه، ح: 1350]، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ الْخِيفِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، وَدَعَيَا لَهُ دُعَاءً حَسَنًا، ثُمَّ قَالا: جِئْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَسْأَلُكَ، قَالَ: إِنْ شِئْتُمَا أَخْبَرْتُكُمَا بِمَا جِئْتُمَا تَسْأَلانِي عَنْهُ ففَعَلْتُ، وَإِنْ شِئْتُمَا أَنْ أَسْكُتَ وَتَسْأَلانِي فَعَلْتُ قَالا: أَخْبِرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَزْدَدْ إِيمَانًا، أَوْ نَزْدَدْ يَقِينًا، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ للثَّقَفِيِّ: سَلْ، قَالَ: بَلْ أَنْتَ فَسَلْهُ، فَإِنِّي لأَعْرِفُ لَكَ حَقًّا فَسَلْهُ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّه، قَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ مَخْرَجِكَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ طَوَافِكَ بِالْبَيْتِ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ رَكْعَتَيْكَ بَعْدَ الطَّوَافِ وَمَا لَكَ فِيهِمَا، وَعَنْ طَوَافِكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَا لَكَ فِيه، وَعَنْ وُقُوفِكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ رَمْيِكَ الْجِمَارَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ حَلاقِكَ رَأْسَكَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ طَوَافِكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنْ نَحْرِكَ وَمَا لَكَ فِيهِ، وَعَنِ الإِفَاضَةِ قَالَ: إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، عَنْ هَذَا جِئْتُ أَسْأَلُكَ، قَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ لَمْ تَضَعْ نَاقَتُكَ خُفًّا وَلا رَفَعَتْهُ إِلا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ بِهَا حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْكَ خَطِيئَةً، وَرَفَعَ لَكَ بِهَا دَرَجَةً، وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ فَإِنَّكَ لا تَضَعُ رِجْلا وَلا تَرْفَعُهَا إِلا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكَ بِهَا حَسَنَةً، وَمَحَا عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً، وَأَمَّا رَكْعَتَانِ بَعْدَ الطَّوَافِ، فَإِنَّهُمَا لَكَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَأَمَّا سَعْيُكَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَكَعِتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً، وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَهْبِطُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ، يَقُولُ: هَؤُلاءِ عِبَادِي، أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي وَمَغْفِرَتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ رَمْلِ عَالِجٍ أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادًا مَغْفُورًا لَكُمْ وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ، وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارَ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا رَمَيْتَهَا تكفير كَبِيرَة مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوبِقَاتِ الْمُوجِبَاتِ، وَأَمَّا نَحْرُكَ فَمَدْخُورٌ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ، وَأَمَّا حَلاقُكَ رَأْسَكَ فَبِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ، وَيُمْحَى عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَتِ الذُّنُوبُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِذًا يُدَّخَرُ لَكَ فِي حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَطُوفُ وَلا ذَنْبَ لَكَ، فَيَأْتِي مَلَكٌ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْكَ ثُمَّ يَقُولُ: اعْمَلْ لِمَا تَسْتَقْبِلُ، فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى فَقَالَ الثَّقَفِيُّ: أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الصَّلاةِ، فَإِنَّكَ إِذَا غَسَلْتَ وَجْهَكَ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ مِنْ أَشْفَارِ عَيْنَيْكَ، وَإِذَا غَسَلْتَ يَدَيْكَ فَمِثْلُ ذَلِكَ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ مِنْ أَظْفَارِ يَدَيْكَ، فَإِذَا مَسَحْتَ بِرَأْسِكَ فَمِثْلُ ذَلِكَ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ عَنْ رَأْسِكَ، فَإِذَا غَسَلْتَ رِجْلَيْكَ انْتَثَرَتِ الذُّنُوبُ مِنْ أَظْفَارِ قَدَمَيْكَ، فَإِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَاقْرَأْ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ، ثُمَّ إِذَا رَكَعْتَ فَأَمْكِنْ يَدَيْكَ مِنْ رُكْبَتَيْكَ: وَافْرُجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، إِذَا سَجَدْتَ فَأَمْكِنْ وَجْهَكَ مِنَ السُّجُودِ كُلِّهِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، وَلا تَنْقُرْ نَقْرًا، وَصَلِّ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ صَلَّيْتُ كُلَّهُ؟ قَالَ: إِذًا فَأَنْتَ إِذًا أَنْتَ”. [دلائل النبوة للبيهقي، 6/295).
فكرم الله وإحسانه يتجلى من خلال كل الآيات والبشائر النبوية التي يغفر بها الذنوب ويكفر بها السيئات.
إن هذه الحكمة المباركة قد توخت تحقيق مقصد تمثلي عظيم به أنيط الفلاح في الدارين، وهو حسن ظن العبد بربّه، ففي الحديث القدسي الذي يرويه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة: “أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي” [مسند احمد بن حنبل، ح:10045]، فإذا حسن ظن العبد بربه أفلح في الدارين، وإذا ساء ظن العبد بربه والعياذ بالله؛ فإنه الردى، نسأل الله عفوه ومعافاته، وبهذا تجلت المثلات في قوله تعالى: “وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين” [سورة فصلت، الآية: 23] والقصد من هذه الحكمة إسعاف العباد بما يمكّنهم من المحافظة على الإيجابية في سلوكهم إلى الله تعالى وإن عُرْجا ومكاسير، فهذه الحكمة تحجز العبد أن يستعظم ذنبه استعظاما يؤدي به على اليأس، إذ اليأس في ملّة الختم كفر “إنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون” [سورة يوسف، الآية:87]. وليس المقصود استصغار الذنب استصغار جرأة، بل المقصود استصغاره استصغار قربة.
والله المستعان
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
أرسل تعليق