كيف كان الرسول (ص) يربي أصحابه؟
يقول الله تقدست أسماؤه: “لقد من الله على المومنين إذ بعث فيهم رسولا من اَنفسهم يتلو عليهم ءَاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” [آل عمران، 164].
مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشر سنين يدعو الله ويربي المؤمنين، وعلى الرغم مما يبدو من أن الدعوة لم يكتب لها الظهور في هذه المرحلة التي انتهت بالهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة؛ فإن الواقع يثبت أنها حققت أعظم انتصار للإسلام على معاقل الجاهلية، إذ استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم كل التحديات والعوائق أن يربي عددا من أصحابه ويكون منهم جماعة متميزة وقاعدة صلبة لمشروعه الرسالي الكبير. تربية الإنسان المؤمن والفئة المؤمنة أعظم إنجازات النبوة في العهد المكي… وهذا الإنجاز على أهميته وعظمه لم يحظ بعناية الدارسين تأملا ودراسة واعتبارا..
كيف ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه؟ ما هي معالم البرنامج التربوي النبوي؟ ما هي المقاصد والغايات العليا لهذا البرنامج؟ هل كانت للنبي مدرسة يلقي فيها دروس وتوجيهاته؟
هل كانت دار الأرقم بن الأرقم التي اتخذها عند الصفا هي مدرسته التي ربى فيها أصحابه؟ إن المفهوم الضيق لكلمة مدرسة لا يصدق على دار الأرقم؛ لأنها كانت في حقيقتها أكثر مدرسة عرفها التاريخ، خرجت نخبة ممتازة من الرجال والنساء والشباب قاموا فيما بعد بأكبر تغيير أو انعطاف عالمي عرفته البشرية.. كيف ربيت هذه النخبة الطليعة؟ لا بد للجواب عن هذا السؤال من دراسة دقيقة للقرآن، وفهم عميق للسيرة النبوية.
القرآن–أيها الأكارم– هو الذي قام فعلا بدور التربية، وله فيها منهج خاص ومتميز يربي بآياته متى صادف الفطرة السليمة والقلب الذكي والهمة العالية… وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن ربه، والترجمان العملي لكلام القرآن، والمربي النموذج الذي وصل أصحابه بالله عرفهم ومعرفة ويقين استطاع بمنة الله أن يفتح لهم باب القرآن، ففهموه على أنه أوامر للتنفيذ فكان زاد قلوبهم، ومطهر نفوسهم وصلة بينهم وبين ربهم…
وبهذا كانت مجالس دار الأرقم تربية، كما كان قيامهم الليل بالقرآن تربية، وقامت المحن والابتلاءات بدورها في التربية، وجمالا. ويقول خباب بن الأرت: لقد رأيتني يوما أخذوني فأوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها ثم وضع رجله على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري ثم كشف عن ظهره فإذا هو قد برص.. كانت قريش تتفنن في إيذاء هؤلاء الفتيان فما ضعفوا وما استكانوا. ومر النبي بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه وهم يعذبون بمكة فقال لهم صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة فأما أمه رضي الله عنها فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام.
لما أمعن المشركون في تعذيب الفئة المؤمنة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة لأن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد، ولما أسلم بعض أهل يترب بعث معهم مصعب بن عمير داعيا ومعلما ومربيا، فكان يدعو أهلها إلى الله، ويسمعهم القرآن، ويصلي بهم ويعلمهم ما أخذه عن رسول الله من آيات الله والحكمة.
ولم تنته التربية بانتهاء العهد المكي، ولكنها استمرت في المدينة بعد الهجرة على نطاق أوسع مما كان، فقد بدا القرآن ينزل بالتشريع المتعلق بالهيئة الاجتماعية ويتناول مسائل الأسرة والمجتمع وقواعد السلم والحرب فاتسع مجال التربية تبعا لاتساع نواحي الحياة وحدوث أقضية وتشكلات جديدة، وقد حدثتكم فيما سبق أن أول شيء صنعه النبي عند مقدمة المدينة اتخاذه المسجد مفزعا ومثابة لدعوته: يصلي فيه بالمسلمين خمس مرات، ويبلغ فيه ما أنزل إليه من ربه، ويستقبل فيه الوفود، ويعقد فيه مجالس العلم والمشاورة… ولم يبخل النبي عن مهمته في التربية حتى لحق بالرفيق الأعلى ولم يشغله عنها شاغل من صوارف الحياة، وما عني بشيء كما عني بتربية المؤمنين، في آخر يوم من حياته صلى الله عليه وسلم، صلى أبو بكر بالمسلمين يوم الاثنين وهم صفوف في صلاة الفجر، فبينما هم كذلك كشف النبي ستر الحجرة ينظر إلى المسلمين وهم وقوف أمام ربهم ورأى كيف أثمر غرس دعوته وجهاده فملئ من السرور ما الله به عليم، واستنار وجهه وهو منير يقول الصحابي رضي الله عنه: “كشف النبي ستر حجرة عائشة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك فهممنا أن نفتتن من الفرح، وظننا أن النبي خارج إلى الصلاة فأشار إلينا أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر وتوفي من يومه صلى الله عليه وسلم وكان آخر ما سمعه.. الغفير من الناس يوم حجة الوداع أنه قال: “يا أيها الناس هل تدرون في أي شهر أنتم وفي أي يوم أنتم وفي أي بلد أنتم؟ فقالوا في يوم حرام وبلد حرام وشهر حرام، وقال فإن دماءكم وأموالكم وأغراضكم عليكم حرام لحرمة يومكم هذا في شهركم هذا وفي بلدكم هذا إلى يوم تلقونه ثم قال اسمعوا مني تعيشوا ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا تظلموا، إنه لا يحال مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، ألا وارث كل دم ومال، ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى أن قال: الا لا ترجعوا كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون ولكنه في التحريش بينكم، واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإن لهن عليكم حقا، ولكم عليهن حقا لا يوطئن فرشكم أحدا غيركم، ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما أخذتموهن بأمانة الله إلى إن قال: الأهل بلغت الأهل بلغت ثم قال ليبلغ الشاهد الغائب فإن رب مبلغ أسعد من سامع“.
أرسل تعليق