علومنا الإسلامية والسياق الكوني المعاصر..(11)
آفاق القراءة والتلاوة للآيات
حين نتحدث عن تجديد العلوم الإسلامية وجب استحضار مستويات علمية تعد بمثابة الرافعات المنهاجية للعملية التجديدية، وهي كالآتي:
المستوى الأول- القراءة
إن أول ما أشرق من أنوار هذا الوحي الخاتم على دنيا الإنسان هو قوله سبحانه: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الاِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الاِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” [العلق، 1-5]، ومنذ هذا الإشراق الأول يتبين لنا أن ثمة أمرًا بقراءتين:
القراءة الأولى: قراءة في الخلق: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الاِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ“، ولا شك أن هذه القراءة في الخلق لها أبجدها ولها آلياتها ولها خطواتها ولها مؤشرات تقويمها. والقراءة الثانية التي تبرز: هي القراءة في الكتاب المسطور “اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ“.
إن فعل القراءة في عالم الإنسان وفي دنياه أصبح -بحمد اللٰه- ممكنًا بإقدار الله عز وجل لهذا الإنسان على هذه القراءة؛ وتجلّي هذا الإقدار في الجانب المنظور كان من خلال الأسماء وتعليمها “وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاَسْمَاءَ كُلَّهَا” [البقرة، 30].
أما في الجانب الذي هو جانب الكتاب المسطور، فنجد الكلمات، وذلك في قول اللٰه عز وجل: “فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ” [البقرة، 36]. هناك إذن، الأسماء في الكتاب المنظور، وهناك الكلمات في الكتاب المسطور، وهناك -كذلك- المواءمة بين الإنسان وبين الكتابين، وهي مواءمة كانت ممكنة بسبب الدمغة الأولى والفطرة الأولى: “فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ” [الروم، 29].
وتقوم هذه المواءمة الممكّنة من القراءتين في الجانب المنظور “الكوني”، وفي الجانب المسطور “جانب الوحي” على مجموعة من الأسس أبرزها البنائية. ففي الجانب المنظور “الجانب الكوني”، نجد أن هذا الكون بناء عضوي “وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” [الذاريات، 47]، “ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا اَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا” [النازعات، 27-28].
وهذا البناء له مقصديَّة هي التسخير “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ” [لقمان، 19]، وفي مواطن من كتاب اللٰه يبرز أن هذا الكون وحيُه هو أن يتسخّر لك أيها الإنسان، ومنها قوله تعالى: “وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ اَمْرَهَا” [فصلت، 11]، وقوله سبحانه: “يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا” [الزلزلة، 4-5]، وحيًا جديدًا، فحين يقول الإنسان: ما لها؟ ما لها لا تتسخر؟ يكون الجواب: إن ذاك الوحي القديم الذي هو وحي بالتسخر، قد نُسخ كما قال الإمام القرطبي في جامعه: “بوحي جديد هو وحي بعدم التسخر؛ لأن زمن الحساب قد أزف”، وهو قوله تعالى: “وَإِذَا الاَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ” [الانشقاق، 4-5]. فهذا الكون إذن مسخَّر، ويمكّن من هذا التسخير، كون الإنسان قادرًا على تفهّمه من خلال المقوِّمات التي زوَّده اللٰه عز وجل بها، وفي مقدّمتها المواءمة ثم قدرة معرفة الأسماء.
يتبع في العدد المقبل…
————————
- ورضي الله عن سيدنا عبد الله بن عباس حين قال: “علَّمه حتى القصعة والقُصيعة”، والعلماء -وعلى رأسهم بهذا الصدد أبو الفتح ابن جني- على أنَّ المقصود بـ “وَعَلَّمَ آدَمَ الاَسْمَاءَ كُلَّهَا” هو إقداره على تسمية الأشياء، وهذا الإقدار هو الذي يمكّن الإنسان من تفصيل وتفكيك المجملات؛ بحيث يستطيع أن يأتي إلى مجمل ويفكِّكه، وكلُّ جزء ينتج عنده وينجم من هذا التفكيك يكون قادرًا على إعطائه اسمًا، فيضبطه في مكانه من خلال هذا الاسم، وهكذا يستمرّ في التفكيك، ويكون بعد ذلك من خلال هذه الصور والمعالم الأسمائية قادرًا على التركيب، أي إنها قراءة في اتجاهين: تفكيكًا وتركيبًا، قراءة قد أصبحت ممكنةً بسبب هذه القدرة على التسمية.
أرسل تعليق