عالمية المنهج القرآني
إن آية “اهدنا الصراط المستقيم” تتصدر قائمة الآيات القرآنية الداعية إلى التأمل العميق لكشف خصائص المنهج القرآني، التي من شأنها أن تسمح للإنسان المسلم بتدشين الانطلاقة التصحيحية لمناهج البشرية في كل زمان ومكان.
ولحكمة ما تصدرت سورة الفاتحة القرآن الكريم، وتتكرر قراءتها في كل صلاة، ويتكرر معها دعاء “اهدنا الصراط المستقيم”. لعمري كأن الإنسان المسلم يتواصل مع كلية من كليات التصور الإسلامي، ويدعو بدعوة الفطرة للاهتداء إلى خصائص “المنهج القرآني”، التي من أجل الظفر بها يعاود الدعاء والرجاء في الفرائض والنوافل، سرا وعلانية، ليلا ونهارا، فردا وجماعة عله يهتدي إليها.
ولأن “اهدنا الصراط المستقيم” من حيث هو دعاء يتضمن إشارة إلى ضرورة الاجتهاد فيه لطالب الهداية بالتوفيق لسلك هذا السبيل المستقيم، وهو أمر لا يعرف حقيقته إلا من كابد البحث عن طريق الاستقامة. وفيه إشارة أيضا إلى أهمية الصراط المستقيم والمنهج القويم؛ لأنه الوسيلة الأسلم لكل أنواع السلوك السوي. ثم أخيرا فيه إشارة إلى الاستقامة التي تفيد أن طالب المنهج القرآني مطمئن في بلوغ مراده وهدفه وبغيته.
إن من شأن “اهدنا الصراط المستقيم” وأخواتها في السياق أن يكشف لنا عن خصائص المنهج القرآني ومقوماته، والتي تتربع على عرشها خاصية العالمية، وهو ما أشارت إليه الآية الأولى من سورة الفاتحة “الحمد لله رب العالمين”، والتي جاءت من بعدها آية “اهدنا الصراط المستقيم” لتؤكد هذه الحقيقة القرآنية التي لا يمكن للفكر الإسلامي أن يبلور تصوره المنهجي والعلمي إلا في ضوئها، بحيث لا تجد فيها حسا أو تكاد تسمع فيها ركزا للوثة التعصب، أو مساءة التحيز، أو جزئية القراءة، أو سلبية المذهبية، أو حساسية الخصوصية، أو ما إلى ذلك من الأثقال والأغلال التي نسجت حول الفكر الإسلامي لتجعل منه منهجا معرفيا واهنا وموهونا كبيت العنكبوت..!
ومما لا شك فيه إن الغفلة عن عالمية المنهج القرآني يفسر كيف ظهر فينا من يسيء إلى منهج التعامل مع كتاب الله العزيز حين غابت عنه النظرة الكلية القرآنية التي تعالج كثيرا من القضايا والمشكلات. ويوضح أيضا كيف ظهر فينا من يكره الرسالات السماوية ولا يعرف عنها شيئا، ويبغض أمما ويكره شعوبا ويجهل تمام الجهل أسباب هذه البغضاء والكراهية، ويعتبر أن الإسلام له لا لغيره، وحتى وإن أسلم هذا “الغير” فهو في أحسن أحواله في “درجة ثانية” غير درجته.. إلى غير ذلك من المساوئ المنهجية والمعرفية والوقتية التي أضرت بالإسلام والمسلمين.. !!
إن خاصية عالمية المنهج القرآني التي تؤسس لها آيات كُثر -بدءً من “الحمد لله رب العالمين” في سورة الفاتحة، وانتهاءً “برب الناس” و“ملك الناس” و“إله الناس” في سورة الناس- تشهد بحق على ميلاد أمة ذات منهج كوني إنساني واسع.. أمة ملحاحة لا تمل من تكرار دعاء “اهدنا الصراط المستقيم” لتوهب منهجا يسع المنهج العلمي البشري في صوره النسبية والحتمية والوضعية، كما يسع الثقافات والحضارات الإنسانية بكل تنوعاتها وهوياتها وخصوصياتها، ويخرج بهذا كله من دائرة ضيق الفكر البشري إلى سعة المنهج القرآني وشموليته وعالميته.
من أهم نتائج عالمية المنهج القرآني معالجة قضايا الأمة الإسلامية بطريقة شمولية بعيدة عن النظرة الجزئية الضيقة، والتصور المذهبي المتحيز، والقراءة الإسقاطية للقرآن الكريم، التي تطغى على كثير من الآراء والاجتهادات المعاصرة، وبذلك يفتح الفكر الإسلامي بابا واسعا لممارسة منهجية متميزة تتساوق وعالمية القرآن الكريم.
أرسل تعليق