طرق تمويل الاستهلاك في منظور الفقه الإسلامي.. (5)
9- دور كفارة قتل الصيد في الحج في تمويل الاستهلاك
وهذه الكفارة هي التي وردت في قوله تعالى: “يا أيها الذين ءَامنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مِثل ما قَتَلَ من النعم يحكم به ذوا عدل منكم. هديا بَالِغَ الكعبةِ أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره” [المائدة، 97]، فمن قتل الصيد وهو محرم بالحج فعليه أن يذبح هديا يمول به استهلاك الفقراء أو يعطيهم قيمة ذلك[1].
10- دور الفدية في تمويل الاستهلاك
أ. دور فدية الحج في تمويل الاستهلاك
وهذه الفدية هي المقررة في قوله تعالى: “ولا تحلقوا رءُوسكم حتى يبلغ الهدي مَحِلهُ فمن كان منكم مريضا اَو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك” [البقرة، 195].
فقد رخص الإسلام لمن اضطر أن يحلق رأسه وهو محرم لأذى في رأسه، أو لأنه مريض أن يخرج صدقة إلى الفقراء والمساكين، والصدقة أن يطعم ستة مساكين أو يصوم ثلاثة أيام أو يذبح شاة.
وقد أخرج أبو داود عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال قد أذاك هوام رأسك؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “احلق ثم اذبح شاة نسكا، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر ستة مساكين“[2].
فذبح الشاة أو إطعام ستة مساكين يعتبر وسيلة لتمويل الاستهلاك، ومما يؤكد هذا الدور التمويلي أن هذه الكفارة على التخيير[3]، مما يفسح المجال أمام المكلف للقيام بهذا الدور.
ب. دور فدية الصوم في تمويل الاستهلاك
وهذه الفدية تجب على من لم يستطع الصوم لكبر أو هرم أو عجز أو مرض مزمن، فمن أفطر في هذه الحالات يجب عليه في كل يوم يفطره إطعام مسكين “وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين” [البقرة، 183].
فهذه الفدية تساهم في تمويل جزء من استهلاك الضعفاء والمحتاجين.
وهكذا يتبين أن الكفارات تلعب دورا مهما في تمويل استهلاك الفقراء والمساكين مما يؤكد البعد الجماعي لهذه التشريعات رغم ارتباطها بالفرد وفي ذلك يقول أستاذنا الدكتور محمد فاروق النبهان “وهذا الاتجاه الجماعي الذي يقصد به مصلحة الفقراء والمساكين واضح في جميع مجالات التشريع حتى في التصرفات الفردية التي لا يطلع عليها أحد إلا الله، وهكذا يلح الإسلام على الأغنياء في كل مجال أن يدفعوا للفقراء، وأن يكفوهم الحاجة، وهنا لا يحتاج الفقير؛ لأن يتسول على أبواب الأغنياء، بل إن الأغنياء هم الذين يجرون على أبواب الفقراء حتى يدفعوا إليهم حقهم، وليحموهم من عقاب الله الذي يحل عليهم إذا لم يكفروا عن خطيئاتهم”[4].
11- دور لحوم الأضاحي أو الهدي في تمويل الاستهلاك
وهذه الأنعام تذبح في يوم النحر -يوم العاشر من ذي الحجة– بنية التقرب إلى الله “والبدن جعلناها لكم من شعائر الله، لكم فيها خير” [الحج، 34].
ولا شك أن منافع البدن والذبائح تؤول إلى الفقراء والمحتاجين ليستهلكوها، ذلك أن تكدس لحوم الهدي في منى أيام النحر الثلاثة يتطلب جهودا جبارة للحفاظ على الدور التمويلي لهذه اللحوم. ولذلك اقترح بعض الباحثين مجموعة من التوصيات من أجل الاستفادة من لحوم الهدي، وهذه التوصيات هي:
- تعليم الحجاج أحكام الهدي والتي منها، أن الحاج المفرد لا ذبح عليه[5]، ومن ثم يجوز له أن يتصدق بالقيمة. أما القارن والمتمتع فعليه الهدي؛
- يجوز أن يكون الذبح في منى ومكة، لحديث أبي داود عن جابر، قال: “قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، ووقف بعرفة، فقال: قد وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقف بالمزدلفة وقال: قد وقفت هاهنا ومزدلفة كلها موقف”[6]؛
- ينبغي توفير ثلاجات كبيرة لحفظ هذه اللحوم بعد تنظيمها ثم تصديرها إلى الفقراء والمحتاجين في البلاد الإسلامية؛
- إنشاء مؤسسات اقتصادية إسلامية مهمتها حفظ هذه اللحوم في معلبات من أجل تصديرها إلى البلاد الإسلامية الفقيرة؛
- تأسيس جمعيات إحسانية تشرف على جمع وتوزيع لحوم الهدي للمحتاجين[7]. والذي يبغي الإشارة إليه أن المملكة العربية السعودية قامت بتوزيع وتصدير لحوم الهدي في السنوات الماضية إلى البلاد الإسلامية المحتاجة، كما أن البنك الإسلامي للتنمية وزع سنة 1404هـ/1984م، في تجربة أولى 186.000 رأس غنم على المحتاجين في قارتي إفريقيا وآسيا[8].
12- دور الإحسان الإلزامي في تمويل الاستهلاك
والنفقة على الأقارب تعتبر من بين الوسائل التي شرعها الإسلام لتأمين الكفاية للأقارب والمعوزين[9].
ومفهوم النفقة يشمل الغذاء والكساء والدواء والسكن، أي ما يعتبر من الحوائج الأصلية بحسب التطور الحضاري التي تمر به المجتمعات. وقد اشترط الفقهاء لاستحقاق النفقة للأقارب بعض الشروط منها:
- إعسار المنفق عليه وهو علة استحقاق النفقة؛
- يسار المنفق عليه أي أن يكون غنيا يزيد دخله كما ينفق على نفسه؛
- عجز المنفق عليه عن الكسب والعمل[10].
ومن النصوص التي اعتمدها الفقهاء في هذا المجال قوله تعالى: “وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف” [البقرة، 231]. وفيه دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لعجزه وضعفه، وسمى الله تعالى الأم لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاعة[11]. واستدلوا أيضا بقوله تعالى: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا” [الاِسراء، 23]. وفيه دليل على وجوب نفقة الوالدين على الابن، أو بقوله تعالى: “وآت ذا القربى حقه” [الاِسراء، 26]. وهو يدل على وجوب نفقات الأقارب، وفي الحديث: “ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلقرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا..“[12].
فهذه النصوص تؤكد دور الإحسان الإلزامي في تمويل النفقة على الأقارب مما يساهم في تحقيق مستوى الاستهلاك الأمثل لكثير من الأسر انطلاقا من البنية الأسرية المؤسسة على البر والتراحم كما دعا إليه الإسلام.
13- دور الدولة في تمويل الاستهلاك
تعتبر المسؤولية عن كرامة أفراد المجتمع، وصيانة حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من أهم وظائف الدولة في الإسلام.
فالدولة في ظل الفكر الإسلامي تستهدف مراعاة المصالح الجماعية للمجتمع الإسلامي، وترسيخ قيم العدالة الاجتماعية في بعدها الإنساني، كما تتغيا تحقيق مستوى الكفاية لكل أفراد المجتمع، في إطار التكريم الإلهي لحقوق الإنسان.
ومبدأ العدالة يعتبر من القيم الأساسية التي تقوم عليها الدولة في الإسلام والتي تمارسها في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..
يتبع في العدد المقبل…
——————————————-
1. بداية المجتهد، ج: 1، ص: 261.
- أحكام القرآن لابن العربي، ج: 2، ص: 670.
2. أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب في الفدية سنن أبي داود، ج: 2، ص: 172.
3. بداية المجتهد، ج: 1، ص: 267.
4. الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، ص: 344.
5. انظر القوانين الفقهية، ص: 91.
6. رواه أبو داود في كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، سنن أبي داود، ج: 2 ص: 187.
7. الجوانب الاقتصادية لفريضة الحج: زيد بن محمد الرماني، ص: 37، الوعي الإسلامي العدد: 364 السنة الثانية والثلاثون ذو القعدة 1416هـ، أبريل 1996م.
8. الإحسان الإلزامي في الإسلام: محمد الحبيب التجكاني، هامش ص: 187، مجلة الحديث الحسنية، العدد الثامن، 1410 هـ/1990م.
9. لا نريد هنا أن نناقش كثيرا من القضايا التي ذكرها الفقهاء، وإنما غرضنا هو الوقوف على دور النفقة في تمويل الاستهلاك.
10. الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي: محمد فاروق النبهان، ص: 317
11. أحكام القرآن لابن العربي، ج: 1، ص: 203.
12. رواه النسائي، انظر الجامع الصغير، ج: 1، ص: 5.
أرسل تعليق