شمولية الرؤية الحضارية
مهما يكن من اختلاف حول المشروع الحضاري، أو حول مقومات الإمكان الحضاري للأمة الإسلامية؛ فإن شمولية الرؤية الحضارية هو الإطار الذي يجمعها وينظمها ويجعل منها الأسس والقواعد التي ينبني عليها الشهود الحضاري.
إن هذه الخاصية هي التي تتميز بها الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم تجعلها قادرة على التجدد الذاتي باستمرار، وتبعث فيها روح قابلية النهوض وإعادة البناء والإقلاع والإعمار من جديد، وتزيح عنها أغلالها المادية والمعنوية التي أثقلت كاهلها، وتكسر نيرها وقيدها الذي منعها من استرداد مجدها التليد وماضيها المجيد.
وحينما نتحدث عن شمولية الرؤية الحضارية؛ فإننا نتحدث بذلك عن شمولية الوسيلة، وشمولية المنهج، وشمولية المجال الذي يتحقق فيه التصور الحضاري الذي تحمله الأمة، وهذا ليس غريبا عنها، فقد سبق لها أن عرضت حضارتها في شموليتها هذه لقرون خلت، وأهدت خيراتها إلى كثير من الأمم الأخرى. ومن هنا تأتي أهمية الفكر الإسلامي المعاصر في توضيح جوانب هذه الرؤية الحضارية الشاملة، وضبطها على أساس منهجي سليم. وهذا ما يلاحظ بالفعل في الساحة الفكرية حيث بدأت تظهر كتابات في مختلف مجالات الدراسات العلمية توضح المقاصد والغايات والتوجهات والقيم الحضارية التي كانت وراء قيام حضارة شامخة، أصبحت اليوم أثرا بعد عين.
وهذا التوجه هو الذي يتناسب مع مفهوم «الأمة» من حيث استقلالها ووحدتها وقوتها ونهضتها وعمرانها، كما يتناسب مع موقعها المتميز بين الأمم في شهادتها عليها وخيريتها بينها، فهي الشاهد على الناس والمعلمة والمربية والمزكية للأمم والرؤوفة الرحيمة بها، وكل ما يقتضيه قيامها بهذا الدور واجب من واجباتها وفريضة من فرائض الله تعالى عليها تقتضيه طبيعة إخراجها للناس، وانبعاثها إليهم ووسطيتها وشهودها الحضاري وكونها نواة عالمية شاملة وقطب رحى دائرتها.[1]
وليس هناك ما يمنع من توسيع دائرة شمولية الرؤية الحضارية التي نتحدث عنها، وتسليط مزيد من الأضواء على بعض الجوانب التي يظن أنها مفيدة وضرورية، وهذا ما يلاحظ عند بعض المفكرين المعاصرين كما هو شأن الأستاذ عبد الحميد أبو سليمان الذي دعا إلى دراسة شمولية للفكر والحضارة المعاصرة وتاريخها ومجمل قيمها وغاياتها، ثم دعا كذلك إلى الفهم الشمولي الصحيح لها والانفتاح المنضبط تجاهها، والاستفادة العلمية والفنية الصحيحة دون مساس بالقيم والعقائد والمبادئ والهوية.[2]
وذهب الأستاذ عماد الدين خليل إلى التأكيد على الدخول في حوار حضاري مع الغرب، والتعامل مع معطياته العلمية والمعرفية ووضعها في مكانها المناسب من خارطة المنظور الإسلامي للحقائق والنواميس والأشياء، كذلك العمل على محاولة إقناعه بمشروعنا الحضاري ونظمه وأنساقه الفكرية وفلسفاته.. ثم أعطى بعد ذلك بعض «التأشيرات» على منهج العمل في هذا الإطار.[3]
————————–
1. أنظر طارق البشري وطه جابر العلواني: مشكلتان وقراءة فيهما، ص 66.
2. أنظر: أزمة العقل المسلم، ص 168-169.
3. أنظر بحثه: ملاحظات حول المشروع الحضاري، مجلة إسلامية المعرفة، ع9، ص 109-120.
-
أستاذي الفاضل
لقد ذكرتنا-وما أحوجنا للذكرى- بالمفكر الإسلامي مالك بن نبي، الذي انتدب نفسه لوضع أسس منظومة حضارية،-انطلاقا من أن كل تفكير في مشكلة الإنسان، هو تفكير في مشكلة الحضارة-، وذلك من خلال عناصر لا غنى عنها، يؤكد ذلك قوله" لا يتاح لحضارة في بدئها رأسمال، إلا ذلك الرجل البسيط الذي يتحرك، والتراب الذي يمده بقوته، حتى يصل إلى هدفه، والوقت اللازم لوصوله. وكل ماعدا ذلك من قصور شامخات ومن جامعات وطائرات، ليس إلا من المكتسبات لا من العناصر الأولية".
أي أن: الإنسان+التراب+الوقت= حضارة. وكل عنصر مفقود أو به خلل، يمس جوهر التركيب الحضاري بأكمله. في حين أن مكتسبات الحضارة لا يمكن أن تحدث خللا إذا استغني عنها، واستيرادها حتما لا يؤدي لتكوين حضارة، بل قد يكرس أزمة التبعية والابتعاد عن النهج الحضاري الملائم.
رحم الله المفكر مالك بن نبي، ورحمكم، ورحمنا أجمعين..
التعليقات