شذرات من سير العلماء (2)
نواصل في هذه المقالة المقتضبة مع شذرات أخرى لأنوار الدجى وأئمة الهدى. ونقف مع الإمام السهيلي أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن الخطيب الخَثعمي المتوفى بحاضرة مراكش سنة 581هـ/ 1185م، الذي ساد في عصره الجمود والتقليد المذهبي في كافة الأمصار، لكنه رحمه الله لم يكن واقعيا بالشكل السلبي للواقعية، فمال إلى الاستقلال بالرأي وبعد النظر، وكيف لا يكون كذلك وهو المشهور بقوله: (وإذا نظرت المعاني بعين الإنصاف لا بعين الشهوة والتعصب للمذاهب، لاحت الحقائق واتضحت الطرائق).
والواضح من سيرة الإمام أنه لم يتقيد بشكل عام بمذهب من المذاهب الأربعة، إذ كان يميل إلى الاجتهاد وتدقيق النظر في الأدلة، فيأخذ بما صح وثبت منها، ويترك ما خالفها وشذ عنها، محترما في هذا كله الآراء المخالفة لآرائه، بل إنه تعامل معها بأدب جم ورفيع. وليتأمل القارئ الكريم جيدا هذا الكلام الذي قال في روضه: فكل مجتهد وافق اجتهاده وجها من التأويل وكان عنده من أدوات الاجتهاد ما يترفع به عن حضيض التقليد إلى هضبة النظر فهو مصيب في اجتهاده، مصيب للحكم الذي تعبد به، وإن تعبد غيره في تلك النازلة بعينها بخلاف ما تعبد هو به، فلا يعد في ذلك إلا على من لا يعرف الحقائق أو عدل به الهوى عن أوضح الطريق.
ونواصل السير مع أعلام الأمة للوقوف مع شذرة من شذرات الإمام الشوكاني (تـ 1250 هـ) الذي تميزت حياته العلمية بالجمع بين ثلاث مهام شاقة ومضنية وحساسة: التدريس والإفتاء والقضاء.
ونقف قليلا -بتأمل وإمعان- عند المهمة الثالثة، حيث دعاه الخليفة المنصور (1151-1224هـ) إلى تولي منصب القضاء باليمن بعد وفاة القاضي يحيى بن صلاح، فتردد الإمام الشوكاني بادئ الأمر في قبول هذا المنصب، وتعلل للخليفة بكثرة أشغاله وانقطاعه للعلم، ليعود إلى إجابة الدعوة مخافة أن يتولى هذا المنصب- الذي إليه مرجع الأحكام الشرعية- في جميع الأقطار اليمنية من لا يوثق بدينه. فما الذي وقع؟.
الإمام الشوكاني يحدثنا بنفسه عن هذه المرحلة من حياته فيقول في بدره الطالع: “لم يقع التوقف على مباشرة الخصومات في اليومين فقط، بل انثال الناس من كل محل، فاستغرقت في ذلك جميع الأوقات إلا لحظات يسيرة قد أفرغتها للنظر في كتب العلم، ولشيء من التحصيل وتتميم ما كنت شرعت فيه، واشتغل الذهن شغلة كبيرة، وتكدر الخاطر زايدا…”.
أجل، فقد حق لخاطر الإمام أن يتكدر، فهو رجل علم ومعرفة قبل أن يكون رجل قضاء، ولكن تضحيته رحمه الله بأصله الأول (العلم) من أجل دفع الظلم والفساد، وإحقاق العدل والإنصاف بين الناس أمر له شأن كبير، بل إن كتب التاريخ تذكر لنا أن منصبه هذا (القضاء) ساهم بشكل كبير وفعال في القضاء على البدعة بين أهل اليمن، ونشر السنة وإدخال إصلاحات مهمة في القضاء.
ومسك ختام هذه الشذرات مع كلام من ذهب للإمام الشاطبي أبي إسحاق( تـ 790 هـ) شيخ علماء المقاصد، الذي رصع خطبة كتابه الموافقات بالجواهر التالية التي يهديها لكل طالب علم، فقال رحمه الله موجها ومرشدا: فقدم قَََدَمَ عزمك فإذا أنت بحول الله قد وصلت، وأقبل على ما قِبَلَك منه فها أنت إن شاء الله قد فزت بما حصلت، وإياك وإقدام الجبان، والوقوف مع الطرق الحسان، والإخلاد إلى مجرد التصميم من غير بيان؛ وفارق وهْد التقليد راقيا إلى يفاع الاستبصار، وتمسك من هديك بهمة تتمكن بها من المدافعة والاستنصار، إذا تطلعت الأسئلة الضعيفة والشبه القصار؛ والبس التقوى شعارا، والاتصاف بالإنصاف دثارا، واجعل طلب الحق لك نحلة، والاعتراف به لأهله ملة، لا تملك قلبك عوارض الأغراض، ولا تُغَر جوهرة قصدك طوارق الإعراض، وقف وقفة المتخيرين، لا وقفة المتحيرين، إلا إذا اشتبهت المطالب، ولم يلح وجه المطلوب للطالب، فلا عليك من الإحجام وإن لج الخصوم، فالواقع في حمى المشتبهات هو المخصوم، والواقف دونها هو الراسخ المعصوم، وإنما العار والشنار على من اقتحم المناهي فأوردته النار. لا تَردْ مَشرع العصبية، ولا تأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية أنفة ذوي النفوس العصبية، فذلك مرعى لسوامها وبيل، وصدود عن سواء السبيل.
أرسل تعليق