ذاك يوم ولدت فيه
اقتضت حكمة الله تعالى أن يُقَدّم بين يديْ عظيمِ الأحداث، وجليل الوقائع، إرهاصاتٍ تُمَهّد لقربِ ظهورها، وتكونُ -علاوة على ذلك منْبئةً- بعظمة ذلك الحدث.
ولما كانت الولادة النبوية الشريفة أجلَّ الولادات على الإطلاق، إذ إن سيادته المُطْلَقة، وهي الصيغة التي لم يشاركه فيها أحد من العالمين، تستلزم أن يَفوق ما يتعلق بها من الوقائع والأحداث نظيراتها مما يتعلق بسواه صلى الله عليه وسلم.
وقد أكثر الرواة من سياق الأحاديث المشتملة على الإرهاصات التي اقترنت بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم أو سبقته بقليل، وفيها الصحيح والضعيف بل والموضوع. ولم تسلم مما لم يَثْبُت منها كثيرٌ من كتب المولديات، إلا أن عدم ثُبوتِ بعض المروي في هذا الباب لا يدل على عدم ثبوت الباب نفسه، وهو أصل وجود إرهاصات باهرة وآيات ظاهرة سبقت مولد النبي صلى الله عليه وسلم أو اقترنت به. ومما ثبت من ذلك حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مخبرا عن نفسه: “دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى قومَه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك أمهات النبيئين يريْن”[1].
لقد كانت الإرهاصات المتعلقة بميلاد نبينا صلى الله عليه وسلم مناسبةً لعظمة الحدث التي به اقترنت، دالةً على ما سيؤول إليه أمر هذا النبي العظيم؛ فإن رؤيا خروج النور، وانتشاره إرهاصٌ عظيم مناسب لشأنه صلى الله عليه وسلم في كونه كان سببا للهداية وشيوعها، وبلوغها داني الأقطار وقصِيّها. والهداية كالنور يُستبصر بها الطريق، ويُهتدى بها إلى مسلك الحق، وتتبدد بلوامع أنوارها سُجُوف الضلالة الحالكة، وشأنها في المعنى كشأن الأنوار في الحس.
وما زالت الدلائل تتوالى تترى على كون الميلاد النبوي ليس ككل ميلاد، وعلى كون اليوم الذي شهد هذا الحدث العظيم ليس ككل الأيام، فانضمّ إلى هذه الإرهاصات الدالة على عظمة الحدث وشرف اليوم لسانُ الشرع، فأعرب بصريح اللفظ عن شرف هذا اليوم، فعنْ أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: “ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه، أو أنزل عليّ فيه”[2]. فيُستشف من هذا الجواب إعلامٌ بشرف هذا اليوم، وإخبار بفضله، وقد قال الإمام ابن الحاج في المدخل: “أشار عليه الصلاة والسلام إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله عليه الصلاة والسلام للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين فقال له عليه الصلاة والسلام: “ذلك يوم ولدت فيه”، فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي ولد فيه، فينبغي أن نحترمه حق الاحترام، ونفضله بما فضل الهم به الأشهر الفاضلة، وهذا منها، لقوله عليه الصلاة والسلام: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر”، ولقوله عليه الصلاة والسلام: “آدم ومن دونه تحت لوائي”.. وفضيلة الأزمنة والأمكنة بما خصها الله تعالى به من العبادات التي تفعل فيها لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تتشرف لذاتها وإنما يحصل لها التشريف بما خُصت به من المعاني”[3].
فتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ليوم ميلاده بالندب إلى الصوم فيه، منبئ عن شرف ذلك اليوم، وعلةُ شرفه ما وقع فيه، ومن أجَلِّ ذلك ما شهده من الميلاد النبوي فيه، وقد قال الإمام القرطبي على هذا الحديث: “كل هذا دليل على فضل هذا اليوم”[4]. والأزمان لا يفضل بعضها بعضا إلا بالواقع فيها، وإلا فإنها متساوية من حيث هي أزمان، لا تفضل ساعة ساعة، ولا نهار نهارا، ولا ليل ليلا باعتبار كونه زمانا، وإنما تتفاضل الأزمان بما كانت ظرفا له من أحداث.
ثم ها هو أيضا جانب آخر من جوانب التعظيم لذلك اليوم، وهو المتعلق بطريقة الإخبار عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال مخبرا عن ذلك اليوم: ذاك يوم، واسم الإشارة ذاك يشار به إلى البعيد؛ فإن لم يكن بُعْدٌ؛ فإنه للتعظيم، والمرتفعُ مَحلا، العليُّ منزلة، كأنه قد بَعُد موضعه، وأوغل في الشرف مبتعدا.
وشَغْل اليوم العظيم بالصيام فيه إشارةٌ إلى شكر الله على عظيم النعمة التي حصلت في ذلك اليوم، ومنه صوم موسى عليه السلام يومَ عاشوراء شكرا لله على إنجائه وقومَه، وإهلاكه فرعون وجندَه، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: “نحن أحق وأولى بموسى منكم”[5]، والخطاب لليهود الذين كانوا يصومونه، فوقع في شرعنا الإقرار بكون الصوم يكون لونا من ألوان الشكر، وإيقاع الصيام على جهة التنفل في يوم الاثنين الذي وُلد فيه نبينا صلى الله عليه وسلم مناسب لاستحضار الشكر على النعمة العظمى بمولده، كما أن اقتران العبادة بمكان أو زمان دال على فضلهما. وقد أدخل الإمام الحافظ ابن رجب في كتابه لطائف المعارف شهرَ ربيع الأول -الذي شهد ميلاد نبينا صلى الله عليه وسلم- في مواسم شهور السنة، وقصده من ذكر أيام وشهور السنة ما يقع فيها من أعمال الخير الواجبة أو المستحبة.
ثم لْيُنظر إلى تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بيوم ميلاده الشريف، وهو صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد مضي أكثر من نصف قرن على هذا الحدث العظيم، وقد وقع سؤاله عن صوم يوم الاثنين، فقال: ذاك يوم ولدت فيه، ثم زاد السائل معنى آخر، فنص على أن ذلك اليوم الذي ولد فيه شهد أيضا حدثا عظيما في حياته الشريفة، وهو البعثة، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم ما وقع بينهما من أحداث في تلك المدة المديدة الفاصلة بين مولده وبعثته، وهي أربعون سنة، فهذا الجمع بين الولادة والبعث، جمعٌ بين حدثين عظيمين. فالأول ظهور حسي لشخص نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوجود الدنيوي، والثاني ظهور أيضا، لكنه للرسالة، فكل من الظّهورين حدث عظيم.
والحاصل أن الولادة النبوية لم تكن حدثا من الأحداث المعتادة المكروهة، التي يشهدها اليوم الواحد في هذا العالم، حتى غدا الحدث لكثرته وتكرر وقوعه معتادا، وإنما كانت الولادة النبوية حدثا متميزا عن غيره مما يماثله، كيف لا وقد شهد ميلادَ النبي صلى الله عليه وسلم الذي حول مجرى التاريخ الإنساني، والذي كان آخر من يتصف بوصف النبوة في هذا العالم. فميلاده مقدمة لميلاد ذاك الحدثين العظيمين.
ونظرا لشرف هذا اليوم الذي ورد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه بقوله: ذاك يوم ولدت فيه؛ فإن الأمة الإسلامية تفننت في طرق تعظيمه، والتذكير بالحدث الذي وقع فيه، وأظهر علماؤها فنا من فنون التأليف متعلقا بالحدث، وكتبا منسوبة إليه تسمى المولديات، ويُذكر فيها: مولده الشريف وما ظهر من الآيات عند هذا المولد، وبيان نسبه الشريف، وشمائله ومعجزاته صلى الله عليه وسلم، وهذا فرع عن السيرة وجزء منها، إلا أنه لكثرة ما وُضع فيه، وتنوع ذلك صار فنا قائما بذاته، وقد وقع التأليف فيه قديما، فألف فيه الإمام ابن أبي عاصم المتوفى (سنة 287هـ) كتابا هو من مرويات الإمام محمد بن سليمان الروداني[6]، ثم تتابع الناس في التأليف في هذا الباب شرقا وغربا، واعتنى به كثير من كبار العلماء كالعزفي، وابن دحية، وابن الجزري، وابن ناصر الدين، والعراقي، وابن حجر، وتلميذه السخاوي، والسيوطي، وأضراب هؤلاء، كما أنهم تفننوا في هذه المولديات، فمنها ما هو مطول كبير، بل سيقت الأحاديث المذكورة فيه بأسانيد مصنفيها، ككتاب التعريف لابن الجزري، ومنها ما هو مختصر وجيز، كعامة كتب المولد، ومنها ما ألف سجعا كمولد البرزنجي، ومنها ما وضع نظما، كنظم في المولد لعبد القادر بن محمد بن عبد القادر بن سودة[7].
وكثرة هذه المصنفات مع ذلك التنوع الموجود فيها ناطق صدق بما للحدث من جلالة المقدار.
وقد جمع العلامة محمد عبد الحي الكتاني رحمه الله ما اطلع عليه مما ألف في المولد فبلغ به إلى أكثر من مائة وستين كتابا[8].
وأما الكتب التي ذكرت فيها مباحث حول المولد الشريف، وليست مفردة لهذا الغرض، فأكثر من أن تحصى، وحسبك منها كتب السيرة جميعا، وجملة من كتب الخصائص والفضائل النبوية.
ولا أغادر هذا المقال حتى أورد أربعين من كتب المولد الشريف -وهو قليل من كثير- مما ألفه أعيان معروفون من أهل المغرب والمشرق للدلالة على أهمية الحدث.
فمن تآليف المغاربة في المولد وما يتعلق به:
1. الدر المنظم في مولد النبي المعظم للعزفي[9]؛
2. التنوير في مولد السراج المنير لعمر بن الحسن بن دحية الكلبي، 604هـ؛
3. جنى الجنتين في التفضيل بين الليلتين ليلة القدر وليلة المولد لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني، 781هـ؛
4. المولد الشريف محمد بن محمد المغربي، 1191هـ؛
5. السر الرباني في مولد النبي العدناني لمحمد بن محمد البناني، 1245هـ؛
6. المولد لمحمد بيرم الخامس، 1307هـ؛
7. ذكر ليلة المولد الشريف لأحمد بن محمد، ابن الحاج، 1316هـ؛
8. المولد النبوي للسيد محمد مرتضى الجزائري بن أخي الأمير عبد القادر 1322هـ؛
9. السانحات الأحمدية والنفثات الروعية في مولد خير البرية لمحمد بن عبد الكبير الكتاني، 1327هـ؛
10. سعادة الأمة بمولد خير الأمة لمحمد بن قاسم بن محمد الهاشمي الفاسي، 1331هــ؛
11. ربيع القلوب في مولد النبي المحبوب للعربي بن عبد الله التهامي الوزاني الحسلي الرباطي، 1339هـ؛
12. اليمن والإسعاد بمولد خير العباد لمحمد بن جعفر الكتاني، 1345هـ؛
13. إسعاف الراغبين بمولد سيد المرسلين لعبد الصمد بن التهامي بن المدني جلون، 1352هـ؛
14. فتح الله في مولد خير خلق الله لفتح الله بن أبي بكر البناني، 1353هـ؛
15. مسامرة الأعلام وتنبيه العوام بكراهة القيام لذكر مولد خير الأنام لحمد العابد بن أحمد ابن سودة، 1359هـ؛
16. الرد على إنكار القيام عند ذكر المولد النبوي لمحمد بن أحمد الزموري، 1360هـ؛
17. النور اللائح بمولد الرسول الخاتم الفاتح للعلامة عبد الرحمان بن محمد ابن زيدان المكناسي، 1365هـ؛
18. صفاء المورد على القيام عند سماع المولد لمحمد بن الحسن الحجوي، 1376هـ؛
19. المولد لمحمد عبد الحي الكتاني، 1382هـ؛
20. الإتحاف والوداد ببعض متعلقات الولاد لمحمد الرضي بن إدريس السناني، 1385هـ؛
21. إيقاظ النيام عن استحباب القيام في ذكر مولد خير الأنام لعبد الهادي بن محمد السلاوي؛
22. شفاء الغرام بمولد خاتم الأنبياء وصفوة الرسل الكرام لمحمد الطاهر بن الحسن الكتاني؛
23. بلوغ السعد والتهاني في مولد صاحب السبع المثاني لأبي العباس أحمد العمراني الفاسي؛
ومن تآليف المشارقة في ذلك:
24. مولد النبي صلى الله عليه وسلم وما معه لابن أبي عاصم، 287هـ[10]؛
25. المولد النبوي لعلي بن عثمان المارديني 750هـ؛
26. المنتقى في مولد النبي المصطفى لسعيد بن محمد الكازروني، 758هـ؛
27. المورد الهني في المولد النبوي للحافظ العراقي، 804هـ؛
28. عرف التعريف بالمولد الشريف لابن الجزري، 833هـ؛
29. اللفظ الرائق في مولد خير الخلائق لابن ناصر الدين الدمشقي، 842هـ؛
30. المولد النبوي لمحمد بن علي بن حجر العسقلاني، 852هـ؛
31. حسن المقصد في عمل المولد لجلال الدين السيوطي، 911هـ؛
32. النعمة الكبرى على العالم بمولد سيد ولد آدم أو القول السوي في أصل عمل المولد النبوي لابن حجر الهيتمي، 974هـ؛
33. بهجة السامعين والناظرين بمولد سيد الأولين والآخرين لنجم الدين أبي المواهب محمد بن أحمد بن علي الغيطي السكندري الشافعي، 981هـ؛
34. المولد المروي في المولد النبوي لعلي بن سلطان القاري، 1014هـ؛
35. ورد الصفا في مولد المصطفى لمحمد علي بن محمد ابن علان، 1057هـ؛
36. ترويح الفؤاد بمولد خير العباد لعبد السلام بن إبراهيم اللقاني، 1087ه؛
37. تحفة ذوي العرفان في مولد سيد بني عدنان للشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي، 1143هـ؛
38. الرياض النافحة في مولد نبي الأمة الرابحة لزين العابدين جعفر بن حسن بن عبد الكريم البَرْزنجي المدني، 1177هـ؛
39. تحفة السامعين بمولد سيد المرسلين لمحمد بن سالم الحفني، 1181هـ؛
40. المولد لأحمد بن محمد العدوي الدردير، 1201هـ؛
——————————————-
1. أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ وابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وسكت عليه الحافظ في فتح الباري، 6/640.
2. رواه مسلم في كتاب الصيام.
3. المدخل لابن الحاج 2/3 المطبعة المصرية بالأزهر، ط1: 1348.
4. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 3/187، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق- بيروت، ط الأولى، 1417/1996.
5. رواه من حديث ابن عباس البخاري ومسلم.
6. صلة الخلف بموصول السلف ص: 412، د. محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1: 1408/1988.
7. طبع على الحجر وعلى الحروف بفاس.
8. في مقال بعنوان التآليف المولدية، نشر في ستة أعداد من المجلة الزيتونية، وهي: عدد خاص بالمولد: السنة: 1356/1937، ص: 68، فما بعدها- عدد ممتاز، السنة: 1356- 1357/1937، ص: 16 فما بعدها -الجزء الأول- المجلد الثاني، السنة: 1356/1937 ص: 13 فما بعدها- الجزء الثاني-المجلد الثاني، السنة، 1356/1937 ص: 20 فما بعدها- الجزء الثالث- المجلد الثاني، السنة: 1356/1937 ص: 10 فما بعدها-الجزء الرابع- المجلد الثاني: السنة: 1356/1938، ص: 14 فما بعدها.
9. هذا الكتاب ابتدأ تأليفه أبو العباس العزفي، تـ633، ثم أتمه ابنه أبو القاسم العزفي، تـ677، قال الكتاني: “ولعل العزفي هو أول من ألف من المغاربة في المولد. “المجلة الزيتونية” المجلد الثاني: الجزء الثالث: 12.
10. قال الكتاني: “فاستفدنا أن أهل القرن الثالث ألفوا في المولد النبوي، وهي فائدة كبيرة”. “المجلة الزيتونية” المجلد الثاني: الجزء الثالث، ص: 11.
أرسل تعليق