Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

٪ تعليقات

جزيل المواهب في اختلاف المذاهب

أتيمن كثيرا بعناوين أمهات الكتب ومصادر المعرفة في تراثنا الإسلامي، وفي هذا إشارة لطيفة إلى إحياء أهميتها ومكانتها، ولفت الانتباه إلى أصحابها العلماء المجتهدين الذين يقومون مقام الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراهم الله، كما أشار إلى ذلك الإمام الشاطبي في موافقاته.

وعنوان هذا المقال مقتبس من الاختيارات العلمية للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي التي بين فيها أن اختلاف المذاهب في الملة نعمة كبيرة، وفضيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون. حتى إنه رحمه الله سمع بعض الناس الذين لم تشملهم التغطية العلمية يطرحون السؤال التالي: النبي صلى الله عليه وسلم جاء بشرع واحد، فمن أين أتت المذاهب الأربعة؟!

إن هذا الإشكال المعرفي الذي عالجه الإمام السيوطي في وقته وزمانه هو نفسه الذي يطرح للنقاش بحدة في عصرنا الحالي بين الفينة والأخرى في مجامع وملتقيات شتى، ولهذا أبدى عجبه ممن يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض تفضيلاً يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربما أدى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبية وحمية الجاهلية..

وقد زاد الإمام السيوطي هذا الأمر توضيحا في جوابه عن هذا السؤال في رسالته القيمة “جزيل المواهب في اختلاف المذاهب”.. وحين تتولى مصابيح الدجى مهمة التنوير المعرفي، فحري بكل طالب علم مثلي أن يتنحى جانبا ثم يصغي بإمعان، ويتأمل بإتقان كلام هؤلاء الأئمة الأعلام، الذين لا يكتفون بإهدائنا العلم وحده، بل يقرنوه بثماره الحلوة، وحق لهم ذلك لأن علومهم ومعارفهم ثمراء توتي أكلها في كل عصر وحين.

وهكذا أجاب رحمه الله عن ذلكم السؤال الذي سمعه في زمانه ـ ولا يزال يتردد صداه بقوة في زماننا ـ قائلا:

إن اختلاف المذاهب في هذه الأمة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة، فكانت الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم يبعث أحدهم بشرع واحد وحكم واحد، حتى إنه من ضيق شريعتهم لم يكن فيها تخيير في كثير من الفروع التي شرع فيها التخيير في شريعتنا؛ كتحريم القصاص في شريعة اليهود، وتحتم الدية في شريعة النصارى .

ومن ضيقها أيضاً:لم يجتمع فيها الناسخ والمنسوخ كما وقع في شريعتنا، ولذا أنكر اليهود النسخ، واستعظموا نسخ القبلة.

ومن ضيقها أيضاً: أن كتابهم لم يكن يقرأ إلا على حرف واحد كما ورد بكل ذلك الأحاديث.

وهذه الشريعة سمحة سهلة لا حرج فيها، كما قال تعالى: “يريد الله بكم اليسر” [سورة  البقرة، الآية 185]، وقال: “وما جعل عليكم في الدين من حرج” [سورة الحج، الآية : 78 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم: “بعثت بالحنيفية السمحة”.

فمن سعتها: أن كتابها نزل على سبعة أحرف، يقرأ بأوجه متعددة والكل كلام الله.

ووقع فيه الناسخ والمنسوخ ليعمل بهما معاً في هذه الملة في الجملة، فكأنه عمل فيها بالشرعين معاً.

ووقع فيها التخيير بين أمرين شرع كل منهما في ملة، كالقصاص والدية، فكأنها جمعت الشرعين معاً، وزادت حسناً بشرع ثالث، وهو التخيير الذي لم يكن في أحد الشريعتين .

ومن ذلك: مشروعية الاختلاف بينهم في الفروع فكانت المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة، كل مأمور بها في هذه الشريعة، فصارت هذه الشريعة كأنها عدة شرائع بعث النبي صلى الله عليه وسلم بجميعها، وفي ذلك توسعة زائدة لها، وفخامة عظيمة لقدر النبي صلى الله عليه وسلم، وخصوصية له على سائر الأنبياء، حيث بعث كل منهم بحكم واحد، وبعث هو صلى الله عليه وسلم في الأمر الواحد بأحكام متنوعة، يحكم بكل منها وينفّذ، ويصوب قائله، ويؤجر عليه، ويهدي به.

وهذا معنى لطيف فتح الله به، ويستحسنه كل من له ذوق وإدراك لأسرار الشريعة.

التعليقات

  1. فاطمة الزهراء الناصري

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أستاذي الفاضل بارك الله جهودكم، ونفعنا بعلمكم.
    أثرتم موضوعا في غاية الأهمية، ذلك أن الاختلاف في فروع الشريعة لا يدرك معناه ومغزاه إلا من تشرب روحها، وعالج المسائل الفقهية ردحا غير يسير من الزمن، لذلك فدعاوى توحيد المذاهب أو الاستغناء عنها بالتعامل المباشر مع النصوص دعاوى إنما تدل عن جهل أصحابها بروح الشريعة السمحة وبطبيعة الاختلاف المقبول فيها، وهو موضوع يحتاج إلى مزيد من التنوير لدحض تلك الدعاوى المغرية عن توحيد المذاهب مع أنها مستحيلة علميا وواقعيا، ذلك أن هناك من الاختلاف ما يعود إلى أصل اللغة… وغيرها من الأسباب التي لا مفر معها إلا من الاختلاف.

    فلو تفضلتم أستاذي الكريم بمعالجة هذا الموضوع بمنهجكم العلمي الرصين المعهود لكان في ذلك فائدة كبيرة للمهتمين والباحثين.
    دمتم في رعاية الله وحفظه.

  2. محمد لحمادي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    تحية طيبة إلى أستاذنا الفاضل
    وبعد:
    فقد استفدنا منك الكثير في رحاب الكلية، ونستفيد منك بجريدة ميثاق الرابطة، الصادرة عن الرابطة المحمدية للعلماء، وفي هذا العدد تطرقتم لموضوع طريف، لعل من أوائل من تطرق إليه الفقيه الفاضل أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد الطبليوسي (444-521هـ/1052-1127م) رحمة الله عليه في كتابه القيم: التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ومذاهبهم واعتقاداتهم، حيث حصر أسباب الخلاف في ثمانية أقسام كبرى وكل قسم يتولد عنه فروع تابعة له، وقد أشار إلى ذلك في معرض حديثه: (أقول-وبالله العصمة- إن الخلاف عرض لأهل ملتنا ثمانية أوجه، كل ضرب من الخلاف متولد منها ومتفرع عنها:
    الأول منها: اشتراك الألفاظ والمعاني؛
    الثاني: الحقيقة والمجاز؛
    الثالث: الإفراد والتركيب؛
    الرابع: الخصوص والعموم؛
    الخامس: الرواية والنقل؛
    السادس: الاجتهاد فيما لا نص فيه؛
    السابع: الناسخ والمنسوخ؛
    الثامن: الإباحة والتوسع. (ص 11).
    وممن تطرق للموضوع أيضا الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي: (ت790)، في كتابه الموافقات في المسألة الحادية عشر وقد نقلها عن الكتاب السالف الذكر، إلا أنه توسع قليلا في باقي المسائل من موضوع الخلاف ففي المسألة الثانية عشرة قال:
    من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف وهو ضربان:
    أحدهما: ما كان من الأقوال خطأ مخالفا لمقطوع به في الشريعة(…)، والثاني : ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك، وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة…).الموافقات للشاطبي، م5 ص210.
    إلا أنه مما يندى له الجبين في عصرنا الحالي، هو اختلاط الصالح بالطالح، فلم يستطع الناس أن يفرقوا بين العالم والجاهل، من كثرة تصدر من ينسبون إليهم العلم وهم منه براء، وصدق رسول الله صلى عليه وسلم حينما قال: (إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعا ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون) صحيح البخاري، باب الاعتصام بالكتاب والسنة، رقم 6763.
    ومن الأمور التي ينبغي الحذر منها نشر وبث العلل الفقهية والحكم التشريعية للعوام وقد أخبر مالك رحمة الله عليه عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ولا حدث بها، وكان يكره الخوض فيما ليس تحته عمل، وقد أشار الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات، إلى الضابط الذي يلزمه العالم على حد قوله وهو كلام نفيس جدا :(وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها، فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية. (الموافقات للشاطبي، م 5 ص 172)
    والحق ما قال ابن المبارك، فإن الله تعالى يقول: "يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الاخر ذلك خير وأحسن تاويلا" [سورة النساء،الآية: 58].

أرسل تعليق