..تارة تشرق شموس أوصافه
في هذه الحكمة المباركة، يغوص الشيخ بن عطاء الله رضي الله عنه وأرضاه في أغوار محيط العرفان، ويسبح في أنوار التعامل مع المنان، فيعود من غوصه باللآلئ والمرجان، ومن سبحه بالهداية والسلوان.
وهذه الحكمة مستمدة من مشكاة قوله تعالى: “الله نور السموات والاَرض” [سورة النور، جزء من الآية: 35]، ومشكاة قوله سبحانه: “يا أيها الناس اَنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد” [سورة فاطر، الآية: 15].
فقوله رحمه الله “تارة تشرق شموس أوصافه على ليل وجودك” مفاده أن فتح التجلّي اصطفائي، وإنما يمرّ من شعاعات شموس أوصافه جلّ وعلا نحو قلوب المصطفين، بحسب ما يتبدد من غيوم الغفلة والسدور المتلبّدة حول قلوب العباد، فيضاء بذلك ليل وجود الإنسان، ما شاء الله له أن يضاء، ويتم البسط والقبض في كل ذلك بمشيئته تعالى وعلمه سبحانه، وبحسب تعرض العبد للنفحات أو إعراضه عنها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم رواية عن ربه سبحانه في الحديث القدسي: “مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ” [صحيح البخاري، حديث رقم: 6050].
وقوله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ لِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا” [المعجم الأوسط للطبراني، رقم الحديث: 2940].
وقول الشيخ بن عطاء الله رضي الله عنه: “تارة تشرق شموس أوصافه على ليل وجودك”، مفاده أن الوجود كله ظلمة لولا نور وجه الله سبحانه وتعالى: “الله نور السموات والاَرض” وهو المعنى الوارد في الدعاء الذي دعاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف، حيث قال عليه الصلاة والسلام: “أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ” [الدعاء للطبراني، حديث رقم: 959].
قول الشيخ رضي الله عنه: “وتارة يقبض ذلك عنك، فيردّك إلى حدودك” فيه تجلية معنى الاصطفاء، فهو سبحانه الذي يبسط وهو الذي يقبض، وهو الذي يرسل متى شاء، ولمن شاء، رياح رحمته وتذكرته وتبصرته، فيبدّد بها من غيوم الغفلات المكتنفة قلوب العباد، حتى تنفذ شعاعات شموس أوصافه، فتضيء ليل وجود المصطفين برحمته، أو يمسك ذلك سبحانه أيضا برحمته؛ لأن مقام العبد قد لا يحتمل إشراق وصف معين، في لحظة معينة، وبالحدود التي يردّ إليها العباد، فيكون ذاك الإمساك للمحسنين رحمة، وللمسيئين جزاء بما كسبوا لعلهم إن شاء الله يؤوبون.
قول الشيخ رحمه الله: “فالنهار ليس منك إليه، ولكنه وارد عليك” مفاده أنه تعالى هو الذي يمن برحمة تنويره عدلا ووُدّا، متى ما شاء على من شاء، وليس ذاك بمحض كسب العبد، فهو سبحانه المتفضّل المنّان المسترسل الإحسان، نسأله تعالى أن يجعلنا من أهل التقوى وأهل المغفرة، آمين.
والله المستعان
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
أرسل تعليق