تأويل الخطاب ومقتضياته التداولية.. (1)
نقصد بالمقتضيات التداولية جملة العناصر المؤثرة في إنشاء الخطاب وفهمه كالسياق والقصد والظروف الملابسة للخطاب.
1. الـدلالـة والقـصـد:
لقد ميز المالكية بين مستويات ثلاثة يمكن أن ينظر إلى الخطاب من خلالها:
- مستوى الوضع؛
- مستوى الاستعمال؛
- مستوى الحمل..
يقول القرافي: “فالوضع يقال بالاشتراك على جعل اللفظ دليلا على المعنى كتسمية الولد زيدا، وهذا هو الوضع اللغوي، وعلى غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه من غيره، وهذا هو وضع المنقولات الثلاثة: الشرعي نحو الصلاة، والعرفي العام نحو الدابة، والعرفي الخاص نحو الجوهر والعرض عند المتكلمين. والاستعمال إطلاق اللفظ وإرادة مسماه وهو الحقيقة، أو غير مسماه لعلاقة بينهما وهو المجاز. والحمل اعتقاد السامع مراد المتكلم من لفظه”[1].
ويقارب هذا المعنى قول ابن جزي في التقريب: “أما الوضع فهو جعل اللفظ دليلا على المعنى، وهو قسمان: وضع أولي: وهو الذي لم يسبق بوضع آخر ويسمى المرتجل، ووضع منقول من معنى إلى آخر وهو على قسمين: منقول لعلاقة وهو المجاز، ومنقول لغير علاقة ويختص باسم المنقول، كتسمية الولد جعفر والجعفر في اللغة النهر الصغير. وأما الاستعمال فهو التكلم باللفظ بعد وضعه وسواء أطلق على معناه الأول أو نقل عنه لعلاقة أو لغير علاقة. وأما الحمل فهو اعتقاد السامع لمراد المتكلم من لفظه سواء أصاب مراده أو أخطأه.
فالاستعمال من صفة المتكلم والحمل من صفة السامع والوضع متقدم عليهما”[2].
من خلال هذين النصين يمكن القول إن المستويات الثلاثة الأنفة الذكر تشكل مقامات دلالية متمايزة، كما يشير النصان أيضا إلى أمر أساسي مقتضاه أن الدلالة الوضعية تبقى مجردة عن الاعتبارات التداولية كالمقام والقصد، فهي دلالة غير مقامية وغير قصدية، في حين تنبني الدلالة في مستوى الاستعمال على إنشاء القصد الدلالي، وفي مستوى الحمل على تعقب هذا القصد:
- فالوضع مقام تكون فيه الدلالة مجردة عن القصد؛
- والاستعمال مقام يتم فيه إنشاء القصد الدلالي؛
- والحمل مقام يتم فيه تعقب القصد الإستعمالي أو الإنشائي، وهو لا يخلو من القصدية..
والواقع أن “القصدية” لا تنفك أبدا عن الدلالة الوضعية، بل لا سبيل إلى الفصل بينها وبين الدلالة القصدية في جانبيها الإستعمالي والحملي، وبيان ذلك أن الوضع كما وقع تعريفه هو جعل اللفظ دليلا على المعنى “والمعنى عبارة عما يعنى من اللفظ فهو اسم مكان من العناية، فإذا قيل معنى اللفظ كذا فالمراد به أن محل العناية به كذا، والعناية من جانب المضمون هي الإرادة والقصد، فيكون معنى الشيء هو ما يقصد به ويراد به، ومعنى اللفظ هو المراد منه والمقصود به والمقصود منه“[3].
وعليه يتبين أن القصدية وصف ملازم للظاهرة الدلالية، بل إن التواصل الشرعي لا يتحقق إلا في انبناء الخطاب الشرعي على القصد من جهة، وفي تعرف المكلف على قصد الشارع من قوله من جهة ثانية[4].
وفي هذا السياق يرى ابن تيمية أن الكلام “يدل بقصد المتكلم وإرادته، وهو يدل على مراده، وهو يدلنا بالكلام على ما أراد، ثم يستدل بإرادته على لوازمها؛ فإن اللازم مدلول عليه بالملزوم“[5]. كما يرى أيضا أن “دلالة الاسم على مسماه دلالة قصدية؛ فإن المسمي يسمي بالإسم ليعرف به المسمى وليدل عليه تارة يقصد به الدلالة على مجرد نفسه كالأسماء الأعلام للأشخاص، وتارة يقصد به الدلالة على ما في اللفظ من المعنى كالأسماء المشتقة مثل العالم والحي والقادر“[6].
ولما كان الكلام بوصفه دليلا قصديا مبنيا على التفاعل الخطابي بين المتكلم والمستمع، فإن التفاعل القصدي بينهما يتخذ صورتين: تقاصد خارجي وتقاصد داخلي، “أما التقاصد الخارجي فيتجلى في كون المتكلم يقصد بكلامه المستمع وفي كون المستمع يقصد باستماعه المتكلم، كما يتجلى في حصول الوعي بالقصدين عند كليهما، وأما التقاصد الداخلي فيتجلى في جانب المتكلم في كونه قد يقصد نفسه في قصده المستمع، كما أنه قد يقصد المستمع في قصده لنفسه، ويتجلى في جانب المستمع في كون المستمع قد يقصد نفسه في قصده المتكلم، كما أنه قد يقصد المتكلم في قصده لنفسه“[7].
يتبع في العدد المقبل..
————————————————————————-
1. شرح تنقيح الفصول، القرافي، ص: 20، تحقيق طه عبد الرؤوف، ط 1، 1973، دار الفكر، القاهرة.
2. تقريب الوصول إلى علم الأصول، ص: 71، دراسة وتحقيق محمد علي فركوس، ط 1، 1990، دار التراث الإسلامي للنشر والتوزيع، الجزائر.
3. فقه الفلسفة 1، الفلسفة والترجمة، طه عبد الرحمان، ص: 160 . انظر كذلك الأمنية في إدراك النية للقرافي، ص: 11، ط 1، 1984، دار الكتب العلمية، بيروت.
4. وظيفة القول الأصولي في النظرية اللغوية العربية، مولاي إدريس ميموني، ص: 71، رسالة دبلوم الدراسات العليا، كلية الآداب، الرباط، 1996.
5. كتاب النبوات، ابن تيمية، ص: 266-267، دار الكتب العلمية، بيروت، 1982 .
6. نفسه، 278.
7. اللسان والميزان، طه عبد الرحمان، ص: 266.
أرسل تعليق