بصائر ذوي التمييز في خصائص الكتاب العزيز
تحدثت في العدد السابق من جريدة الميثاق الغراء عن الخاصية المنهجية العامة للقرآن الكريم ألا وهي العالمية، وأريد في هذا العدد أن أتابع بعض الحديث في نفس السياق لتوضيح أن هذه الخاصية الأم تتفرع عنها ثلاث خصائص منهجية أساسية: العلم والتزكية والعمران، والتي تحتاج إلى مدارستها لبصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز على حد تعبير العلامة الفيروزآبادي.
فيما يخص أولى هذه الخصائص التي هي العلم؛ فإن المعول عليه أساسا هنا قوله سبحانه وتعالى: “وعلم ءادم اَلاَسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاَء ان كنتم صادقين” [سورة البقرة، الآية:31]. وهذه هي الانطلاقة المنهجية السليمة التي تتساوق وقصدية الخلق.
وباكورة ثمار العلم معرفة الخالق، وتحقيق تمام التوحيد الذي يعتبر جوهر الرسالة الإسلامية وماهيتها، والذي رغم أهميته ومكانته فهو يعتبر هدفا في حد ذاته، أما الوسيلة الهادية إليه والمنهج الكاشف عن معالمه وحقائقه وضوابطه هو العلم، ومن هنا نفهم لماذا أمرت الأمة بأمر القراءة أولا وذلك حتى تعلم حقيقة الترتيب المنهجي الواجب اعتماده في تصورها، فالعلم أولا وهو السكة التي تسير عليها قاطرة التوحيد لتوصل البشرية إلى بر الأمان، أما اعتماد التوحيد قبل العلم فهذا من شأنه أن يعرض مسيرة الإنسان في مدارج السالكين السائرين نحو توحيد رب العالمين لنكبات وكبوات تعيق المسير وتأخر الوصول.
أما الخاصية المنهجية الثانية فتتمثل في التزكية، بدءً من تزكية آدم في قوله تعالى: “وإذ قلنا للملائكة اِسجدوا ءلِادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من اَلكافرين” [سورة البقرة، الآية: 34]. وانتهاءً بتزكية خاتم الأنبياء والمرسلين الحبيب المصطفى عليه أزكى الصلاة والسلام، في قول الله تبارك وتعالى: “اِن الله وملائكته يصلون على النبيء يا أيها اَلذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما” [سورة الاَحزاب، الآية: 56].
ولا أريد أن أكرر الدلالات السامية لمعنى التزكية المتداولة بين العلماء والسالكين والعارفين، ولكن أردت التأكيد على دورها المهم الذي يتوج كل المعاني المحمودة التي تعرف بها، وهو حراسة العلم ومنعه من الانحراف عن سبيله الأقوم ومنهجه الأصوب.
فالعلم الذي تنزع منه معاني التزكية نزعا، ويفرّغ من روحه القيمية إفراغا، لا جدوى من تحصيله ولا طائل للإنسان من ورائه، وبيان ذلك أن كل أمر يتعلمه المرء تمام العلم إلا أنه يغفل عن فقهه والعمل به لسبب من الأسباب فهو حجة عليه كما قال الله تعالى في حق آدم عليه السلام: “ولقد عهدنا إلى ءادم من قبل فنسي ولم نجد له عزما” [سورة طه، الآية: 115].
وثالث الخصائص المنهجية للقرآن الكريم هي العمران، وذلك انطلاقا من قوله تعالى: “هو أنشأكم من الاَرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب” [سورة هود، جزء من الآية: 61]. والاستعمار في الآية هو طلب العمران، وبهذا؛ فإنه في صيغته القرآنية مخالف تماما لمفهوم الاستعمار المتداول في اللسان البشري المعاصر، والذي هو أدعى إلى الاستخراب والاستهانة والاستذلال منه إلى شيء آخر.
وخاصية العمران في القرآن الكريم تجمع بين خاصية العلم وخاصية التزكية السابقتين جمعا بنائيا تكامليا، يؤدي في نهاية المطاف إلى صياغة حضارة إنسانية متميزة، تنوعت فيها الخصوصيات بشتى تجلياتها إلى أن جمعها مصطلح “الأمة” القرآني جمعا عجيبا، وذللها تذليلا يسيرا، فصيرها خصوصية واحدة؛ لأنه مصطلح منمنم بنور رباني يجعل من شدة الظهور الخفاء.
إن هذه الخصائص المنهجية القرآنية الثلاث “العلم والتزكية والعمران” لم تترك هملا أو سدى، بل تمت ترجمتها بصورة عملية في شكل رسالة نبوية مهيمنة، هي اللبنة الأساس والركن الخاتم الذي استتم في نسقية حضارية بديعة مهمة الرسل والأنبياء السابقين لبناء بيت عزيز ومنيع يشهد مولدا جديدا للإنسان من رحم أمة القرآن، ولعمري إن هذه اللحظة الفريدة في تاريخ الإنسان التي ولد فيها ميلادا قرآنيا لهي أعظم وأجمل وأفضل وأسعد من لحظة ميلاده البشرية.
-
بارك الله فيكم وزادكم تميزا
التعليقات