بخاري المالكية: الإمام ابن عبد البر
عرفت الأندلس خلال القرن الثالث الهجري، رحلات متتالية إلى مراكز العلم المشرقية المشهورة، كان من ثمراتها ملاقاة الشيوخ، وربط الأسانيد المغربية بالمشرقية، وإدخال كتب ومرويات نوعية إلى الأندلس، إضافة إلى إسهامها في الانفتاح الكبير على علوم أخرى، أهمها علم الحديث وما يتصل به، الشيء الذي كان له أثر في نشأة مدرسة حديثية أندلسية متميزة، مكنت لعلم الحديث وفقهه، كعلم مستقل بذاته، له أسسه وضوابطه ومناهجه؛ من نقد للأسانيد، ومعرفة بأحوال الرواة وأسماء الرجال، والجرح والتعديل، ومعرفة بالعلل، ونظر في المرويات وسبرها، والموازنة بينها لتمييز صحيحها من ضعيفها، ومعرفة بضوابط الرواية ومنهج القبول والرد، وطرق تعرف معاني الأحاديث، ومناهج وقواعد استنباط الأحكام منها…
ابن عبد البر: نبوغ وتميز
من أبناء مدرسة فقه الحديث، الذين تخرجوا على يد أكابر مشايخها، وحملوا لواءها وأمانة استمرارها؛ العالم المحدث الفقيه، الناقد حافظ المغرب، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، الأندلسي القرطبي المالكي، أحد أعلام القرن الخامس الهجري.
وتحفل سيرته بجملة من المعطيات والقضايا، التي تستوقف الباحث المتأمل، لعل من أبرزها قضيتان أساسيتان:
أولاهما: عدم رحلته في مرحلة الطلب إلى المشرق، مع ما للرحلة من قيمة علمية ومعرفية؛ إذ بها يدرك علو الإسناد، وتتسع الرواية، وتحقق الأصول والسماعات… ولاشك أن هناك أسبابا ذاتية وموضوعية كانت وراء ذلك، أكتفي في هذا المقام بذكر سبب موضوعي قد يجلي هذه القضية؛ وهو تحول الأندلس في هذه الفترة إلى دار للرواية والرواة للعلم، حيث تمكن ابن عبد البر من الأخذ عن شيوخ بلده، ممن رحلوا وجمعوا وتوسعوا في الرواية وصنفوا، وبلغوا من المنزلة والمكانة العلمية، ما جعلهم قبلة للراحلين وطلاب الرواية والتفقه فيها، داخل الأندلس وخارجها، وهذا ما تدل عليه كتبهم المصنفة في الرجال حيث ضمنوها قسما للغرباء ممن قصد بلادهم لذلك الغرض.
قال الذهبي عن ابن عبد البر “وفاته السماع من أبيه الإمام أبي محمد، فإنه مات قديما في سنة ثمانين وثلاث مئة… أدرك الكبار وطال عمره، وعلا سنده، وتكاثر عليه الطلبة، وجمع وصنف، ووثق وضعف، وسارت بتصانيفه الركبان، وخضع لعلمه علماء الزمان .”
ولعمر الله إنها لمكانة لا يدركها إلا من علت همته، ووفق في اختيار الشيوخ وانتقائهم، وصبر على الطلب وماجريات الأيام.
والمتتبع لشيوخ ابن عبد البر – سواء منهم أكابر أهل بلده، أمن استجازهم من مشاهير علماء المشرق ـ وما أخذ عنهم من مرويات وكتب، وما استفاده منهم من علوم ومعارف، يؤكد حقيقة ما ذكرناه من اعتماده المنهج الانتقائي والنوعي في اختيار الراوي والمروي، مما كان له أثره في صياغة شخصيته النقدية والعلمية، الجامعة بين الرواية والدراية.
أما القضية الثانية التي تستوقف الدارس لسيرة أبي عمر؛ فهي تغير مذهبه الفقهي من الظاهري إلى المالكي، ورجوعه إلى القول بالقياس دون تقليد أحد، وما قيل من ميله إلى أقوال الشافعي، وما أعطي لذلك من تفسيرات وتأويلات؛ قال الذهبي:” وكان أولا أثريا ظاهريا فيما قبل، ثم تحول مالكيا مع ميل بين إلى فقه الشافعي، ولا ينكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمة المجتهدين، ومن نظر في مصنفاته، بأن له منزلته من سعة العلم، وقوة الفهم، وسيلان الذهن، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولكن إذا أخطأ إمام في اجتهاده، لا ينبغي لنا أن ننسى محاسنـــه ونغطي معارفه، بل نستغفر له ونعتذر عنه .”
وليس الغرض مناقشة هذا الأمر؛ لأن ذلك يتطلب استقراء وتحليل لكل المكونات البنائية العلمية والمنهجية لشخصية هذا الإمام، وإنما يهمني من شهادة الذهبي ما فيها من الدلالة على انتماء ابن عبد البر إلى مدرسة النقد بالغرب الإسلامي، حيث يعد من أبرز من يمثلها في زمانه، علما واختيارا، منهجا وتأليفا، حتى وصف بحافظ المغرب وببخاري الأندلس.
ملامح المنهج النقدي عند ابن عبد البر
لا يعدم الباحث الحجج المثبتة لتبني الحافظ ابن عبد البر لمنهج التحقيق والتوثيق والتدقيق، ولا الأدلة على امتلاكه لحس نقدي علمي عالي، وتمكنه من علوم الرواية والدراية، ووقوفه مع الأثر وبناء اختياراته على الدليل، واجتهاده ونبذه للتقليد السلبي؛ فمصنفاته وآثاره ناطقة بكل ما تقدم، فالناظر مثلا في التمهيد – الذي يعد من أجل مصنفاته- تستوقفه المقدمة التي تعد مرجعا أساسيا لقضايا علم الحديث ومصطلحه وبعض إشكالاته؛ كالسند المعنعن، وقضية التدليس، وحجية المرسل، وهي قضايا لا يزال النقاش حولها مستمرا إلى الآن.
إضافة إلى ما نجده في ثناياه من ضبط للرواة، ودراسة للأسانيد، ونظر في المتون، وذكر للطرق المختلفة للحديث الواحد، والمقارنة بين الروايات، والموازنة بين الأخبار والأحاديث، والتوثيق والتضعيف، وبيان الأوهام، وكشف العلل وتصحيح الأخطاء، وإعمال ضوابط الجمع والترجيح عند التعارض، وإبراز معاني الأحاديث واستنباط فقهها، والوقوف على دلالاتها الصحيحة حسب اجتهاده، ومناقشة أقوال المخالفين..
فجمع في هذا الكتاب بين المنهج النقدي الحديثي بكل أصولـــه وقواعده، وبين المنهج الفقهي بضوابطه المعتبرة، مع الاجتهاد، والتوسع في الاستنبــاط من الـــقرآن وما صح من الأحاديث.
وكما برع في المضمون، برع كذلك في البناء المنهجي للكتاب، قال عنه الغساني: “رتبه على أسماء شيوخ مالك، على حروف المعجم، وهو كتاب لم يتقدمه أحد إلى مثله .”
وقد ظل الإمام ابن عبد البر وفيا لمنهجه النقدي في جل مصنفاته، ممــا جعله مصدرا مهما لمن بعده من المغاربة والمشارقة؛ حيث اعتمدت تصحيحاته، وتضعيفاته، وآراؤه الاجتهاديـــة واختياراته المذهبية من طرفهم.
-
السلام عليكم..
في الحقيقة هذا العنوان سبق وأن نشر بعنوان الحافظ ابن عبد البر بخاري المغرب، وهذا الإمام يحتاج إلى نفض الغبار عن تراثه والدراسات التي أنجزت حوله خاصة وأن بعض كتبه قد حققت..
وإن شاء الله قد عزمت على ذلك وبدأت وأرجوا أن يعينني الله خاصة وأن بحثي في الماستر حول هذه الشخصية الفذة من الناحية الأصولية. -
في الحقيقة ما من مبالغة في وصف الشيخ الجليل ابن عبد البر ببخاري المالكية، فقد كان متبحرا في العلوم ومتمكنا رواية ودراية، وأوصي طلبة العلم بل العلماء أنفسهم بقراءة التمهيد أو الاستذكار في شرح الموطأ، ولمعرفة ماهية الكتابين لكم قول الشيخ في الاستذكار: "أما بعد فإن جماعة من أهل العلم وطلبه والعناية به من إخواننا نفعهم الله وإيانا بما علمنا – سألونا في مواطن كثيرة مشافهة ومنهم من سألني ذلك من آفاق نائية مكاتبا أن أصرف لهم كتاب (التمهيد) على أبواب (الموطإ) ونسقه وأحذف لهم منه تكرار شواهده وطرقه وأصل لهم شرح المسند والمرسل اللذين قصدت إلى شرحهما خاصة في (التمهيد) بشرح جميع ما في الموطأ من أقاويل الصحابة والتابعين وما لمالك فيه من قوله الذي بنى عليه مذهبه واختاره من أقاويل سلف أهل بلده الذي هم الحجة عنده على من خالفهم وأذكر على كل قول رسمه وذكره فيه ما لسائر فقهاء الأمصار من التنازع في معانيه حتى يتم شرح كتابه (الموطإ) مستوعبا مستقصى بعون الله إن شاء الله على شرط الإيجاز والاختصار وطرح ما في الشواهد من التكرار إذ ذلك كله ممهد مبسوط في كتاب (التمهيد) والحمد لله".
التعليقات