النوازل الاقتصادية في المذهب المالكي.. (1)
1. فقه النوازل وعلاقته بالنشاط الاقتصادي
يشكل فقه النوازل[1] داخل النسق الفقهي نموذجا حيا لاستمرار آلة الاجتهاد في استيعاب الحوادث الواقعة، وتنزيلها على أصول الشريعة، وهو من هذا المنظور يعتبر تراثا غنيا يعكس الحضور المستمر للفقه الإسلامي من أجل تنظيم وتقنين وتوجيه سلوك الفرد والجماعة والأمة، ذلك أن فقه النوازل لم يكن بمعزل عن التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تمر بها المجتمعات الإسلامية بالغرب الإسلامي.
والنوازل الفقهية في الغرب الإسلامي استوعبت جميع مجالات الحياة ما يتعلق منها بالعبادات، وما يتعلق منها بالمعاملات، فهي تختزن في مضمونها جوانب تاريخية واجتماعية واقتصادية، وإذا كانت النوازل بهذا الحجم؛ فإن هذا يستدعي منا إعادة دراستها بمنهجية شمولية تحدد الثابت والمتحول في كتب النوازل[2]، وذلك حتى نستطيع أن نواكب تطورها أفقيا وعموديا.
وتكمن أهمية فقه النوازل في كونه يقدم صورة حية للواقع الاجتماعي للأفراد والجماعات والمؤسسات، ومدى اقترابها أو بعدها عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فهي ترسم معالم السلوك الاقتصادي كما شهدته المجتمعات باختلاف بيئتها وعاداتها وأعرافها، وبذلك يمكن اعتبارها المترجم الحقيقي للمشاكل التي تمر بها الجماعة في أبعادها: الإنسان، والزمان، والمكان، والسياق، وهذا ما تعكسه بعض كتب النوازل في عناوينها[3]، مثل كتاب الأجوبة الناصرية في بعض مسائل البادية[4] للشيخ ابن ناصر الدرعي، فهو يصور قضايا البادية المغربية بالجنوب[5]، وكتاب الجواهر المختارة مما وقف عليه من النوازل بجبال غمارة[6] لعبد العزيز الزياتي، وكتاب الدرر المكنونة في نوازل مازونة ليحيى بن موسى المغيلي المازوني، فهذه الكتب تصور علاقة النوازلي ببيئته، وإن كانت لا تخلو من بعض النقول عن نوازل سابقة.
ولعل أكبر النوازل أو الموسوعات النوازلية كتابي المعيار المعرب للونشريسي، والنوازل الجديدة الكبرى للمهدي الوزاني، فهما تعكسان التاريخ الحضاري والاجتماعي والاقتصادي للأندلس والمغرب العربي، وتقدمان نموذجا للنوازل في مختلف البيئات والأزمان، فقد جمعت فتاوي المتقدمين، ودونت نوازل المعاصرين والمتأخرين. فهما ذخيرتان نفيستان يستفيد من دراستهما وتحليلهما المؤرخ والباحث في النشاط الاقتصادي والاجتماعي للغرب الإسلامي..
يتبع في العدد المقبل..
————————————————————————
1. النوازل والفتاوي والأجوبة والأسئلة والمسائل أسماء لمسمى واحد مضمونه الوقائع اليومية التي تنزل بالناس فيطلبون من الفقهاء الفتوى حولها.
ومصطلح النوازل والفتاوي والأجوبة والأسئلة غلب استعماله بالأندلس والمغرب العربي، أما مصطلح الفتاوي فغلب استعماله في المشرق.
محاضرات في تاريخ المذهب المالكي في الغرب الإسلامي لأستاذنا المرحوم عمر الجيدي، ص: 94-95، منشورات عكاظ، 1987. أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي: محمد رياض، ص: 181، الطبعة الأولى، 1416هـ/1996م، مطبعة النجاح الجديدة.
2. يرى بعض المؤرخين أن النوازل تضع للمؤرخ بصفة خاصة عند التأريخ لفترة قصيرة مشاكل منهجية عدة منها زمان النازلة ومكانها، والسبب أنها تضع مشاكل متشابهة عاكسة بذلك بنية اجتماعية جامدة، ونحن نرى أن هذه الصعوبات يمكن التغلب عليها إذا أعدنا ترتيب كتب النوازل حسب زمانها ومكانها مع بيان المقتبس من المصادر الأخرى حتى تميز الأصيل في فقه النوازلي والذي عايشه فعلا، انظر المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، إينولتان، 1850هـ/1912، أحمد توفيق، الطبعة الثانية، 1403هـ/1983م، منشورات كلية الآداب، الرباط.
3. لا نقصد هنا أن النوازل الأخرى لا تتوفر فيها هذه الصفة، وإنما نريد أن نؤكد أن علاقة النوازل بالبيئة انعكست على صياغة عناوينها.
4. وهذه النوازل للشيخ ابن الناصر جمعها تلميذه محمد بن ابراهيم الصنهاجي، توجد منها عدة مخطوطات بالخزانات المغربية، منها نسخة بالخزانة العامة بالرباط تحمل رقم 1111، وأخرى تحمل رقم 1250.
5. نشير إلى أن الأستاذ أحمد توفيق اعتمد عليها واعتبرها من بين مصادره في دراسته : المجتمع المغربي في القرن 19: “إينولتان” (1850/1912) انظر ص: 36.
6. توجد منها نسخة بالخزانة العامة في جزئين، الجزء الأول في 394 صفحة والجزء الثاني في 318 صفحة رقمها 1698.
أرسل تعليق