المناسبات بين السور والآيات
• أمثلة التناسب بين السور القرآنية:
يقول أبو حيَّان الأندلسي عن هذا النوع: “تتبَّعْتُ أوائل السور المطولة فوجدتها يناسبها أواخرها، بحيث لا يكاد ينخرم منها شيء، وسأبين ذلك إن شاء الله في آخر كل سورة، وذلك من أبدع الفصاحة، حيث يتلاقى آخر الكلام المفرط في الطول بأوله، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم، يكون أحدهم آخذاً في شيء، ثم يستطرد منه إلى شيء آخر، ثم إلى آخر، هكذا طويلاً، ثم يعود إلى ما كان آخذًا فيه أولاً”.
وهذا الصِّنْفُ من التناسب يُظْهِرُ “التآلف والتعانق بين مطلع السورة وختامها في جمهور سور القرآن، تآلفًا وتعانقًا يأخذ بالألباب، وينبئ عن سبيلٍ من سبلِ الإعجاز البياني للقرآن، فبينما تجد السورة تتناول موضوعات شتى، وتطوف بقضايا مختلفة من أحاديث العقيدة والعبادات والمعاملات والجهاد وتنظيم الأسرة والمجتمع؛ فإنك لا تعدم في نهاية المطاف وفي آخر السورة، أنْ تَجِدَ آصِرَةً قوية، ووشيجة متينة، بين مطلع السورة وخاتمتها”.
ومن أمثلته:
أ- ختم الفاتحة بـ: “اِهدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلمُستَقِيمَ صِرَاطَ اَلذِينَ أَنعَمتَ عليهم” [سورة الفاتحة، الآية: 7-8] وافتتاح البقرة بـ: “ذاَلِكَ اَلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ” [سورة البقرة، الآية: 2]. كأنهم سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم، فقيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو ذلك الكتاب، يقول السيوطي: “أخرج ابن جرير وغيره من حديث عليٍّ مرفوعا، الصراط المستقيم كتاب الله، وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود موقوفا، وهذا معنى حسن يظهر فيه سرُّ ارتباط البقرة بالفاتحة”، وقال الخوبي :أوائل هذه السورة مناسبة لأواخر سورة الفاتحة؛ لأن الله تعالى لما ذكر أن الحامدين طلبوا الهدى قال: قد أعطيتكم ما طلبتم، هذا الكتاب هدى لكم فاتبعوه، وقد اهتديتم إلى الصراط المستقيم المطلوب المسؤول؛
ب- ختم المائدة بذكر السموات والأرض: “لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ” [سورة المائدة، جزء من الآية: 120]. وافتتاح سورة الاَنعام بالشيء نفسه: “اِلْحَمْدُ لِلّهِ اِلذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ” [سورة الاَنعام، جزء من الآية: 1]؛
ج- ختم التوبة بإرساله رسولا من البشر ثم ذكر العرش: “لَقَدْ جَآءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ اَنفُسِكُمْ عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمومنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حَسْبِيَ اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ اِلْعَظِيمِ” [سورة التوبة، الآيتان: 128 – 129]. وافتتاح سورة يونس بالشيء نفسه: “أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا اَنْ اَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أن آنذر اِلناس وبشر اِلذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال اَلكافرون إن هذا لسحر مبين اِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الذي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَالاَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ” [سورة يونس، الآيات: 1-3]؛
د- ختمُ الرعد بذكر الكتاب وتكذيب الكافرين به: “وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ” [سورة الرعد، الآية: 43]. وافتتاح إبراهيم بذكر الشيء نفسه: “كِتَابٌ اَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لتخرج اَلناس من الظلمات إلَى اَلنور بإذن ربهم إلَى صراط اِلعزيز اِلحميد اِلله الذي له ما في اِلسماوات وما في اِلاَرض وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ” [سورة إبراهيم، الآيتان: 1-2]؛
ه- ختم إبراهيم بذكر القرآن: “هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر اُولوا الاَلباب” [سورة إبراهيم، الآية: 52]. وافتتاح الحِجْر بذكر القرآن: “تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ” [سورة الحجر، الآية: 1]؛
و- ختم الحجر بإتيان اليقين: “وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ” [سورة الحجر، الآية: 99]. وافتتاح النحل بإتيان أمر الله: “أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ” [سورة النحل، جزء من الآية: 1]؛
ز- ختم الإسراء بحمد الله وتنزيهه عن الولد: “وَقُلِ اِلْحَمْدُ لِلّهِ اِلذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من اَلذل وكبره تكبيرا” [سورة الاِسراء، الآية: 111]. وافتتاح الكهف بالشيء نفسه: “اِلْحَمْدُ لِلَّهِ اِلذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ اِلْكِتَابَ ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا … وَيُنذِرَ اَلذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا” [سورة الكهف، الآيات: 1-2-3-4]. يقول السيوطي: قال بعضهم: مناسبة وضعها بعد سورة الإسراء افتتاح تلك بالتسبيح وهذه بالتحميد، وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام، بحيث يسبق التسبيح التحميد؛
ح- ختم مريم بتيسير القرآن: “فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لتبشر به اِلمتقين وتنذر به قوما لدا وكم اَهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من اَحد اَو تسمع لهم ركزا” [سورة مريم، الآيتين: 97-98]. وافتتاح طه بالشيء نفسه: “طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى” [سورة طه، الآيتين: 1-2].
ط- ختم سورة الجاثية بذكر الله العزيز الحكيم: “وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي اِلسَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” [سورة الجاثية، الآية: 37]. وافتتاح الاَحقاف بالشيء نفسه: “حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ” [سورة الاَحقاف، الآيتين: 1-2]؛
ي- ختم الاحقاف بقوله: “بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ” [سورة الاَحقاف، جزء من الآية: 35]. وافتتاح سورة محمد بقوله: “اَلذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ” [سورة محمد، الآية: 1]. يقول السيوطي: سورة القتال لا يخفى وجه ارتباط أولها بقوله في آخِر الاَحقاف: “فهل يهلك إلا القوم الفاسقون” [سورة الاَحقاف، جزء من الآية: 35]. واتصاله وتلاحمه، بحيث أنه لو أسقطت البسملة منه لكان متصلا اتصالا واحدا لا تنافر فيه، كالآية الواحدة آخذا بعضها بعنق بعض؛
ك- ختم الطور بذكر النجوم: “وَمِنَ اَليل فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ اَلنُّجوم” [سورة الطور، الآية: 49]. وافتتاح النجم بالشيء نفسه: “وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى” [سورة النجم، الآية: 1]؛
ل- ختم القمر بقوله: “فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ” [سورة القمر، الآية: 55]. وافتتاح الرحمن بقوله: “اِلرَّحْمَنُ” [سورة الرحمن، الآية: 1]؛
م- ختم الواقعة بالتسبيح: “فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ” [سورة الواقعة، الآية: 96]. وافتتاح الحديد بالشيء نفسه: “سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي اِلسَّمَاوَاتِ والاَرض” [سورة الحديد، جزء من الآية: 1]. يقول السيوطي: قال بعضهم: وجه اتصال الحديد بالواقعة، أنها قدمت بذكر التسبيح، وتلك خُتمت بالأمر به، قلت: وتمامه أن أول الحديد واقع موقع العلة للأمر به؛ وكأنه قيل: فسبح باسم ربك العظيم؛ لأنه سبح لله ما في السموات والأرض؛
ن- ختم القيامة بذكر أن الإنسان لم يكن شيئاً، بل كان نطفة: “أَيَحْسَبُ الاِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى اَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ تمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى … أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ اَلْمَوْتَى” [سورة القيامة، الآيات: 36-37-38-39-40]. وافتتاح الإنسان بالشيء نفسه: “هَلْ اَتَى عَلَى اَلاِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْاِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ اَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا” [سورة الإنسان، الآيتين: 1-2]. يقول السيوطي: “وجه اتصال سورة الإنسان بسورة القيامة في غاية الوضوح؛ فإنه تعالى ذكر في آخر تلك مبدأ خلق الإنسان من نطفة، ثم ذكر مثل ذلك في مطلع هذه السورة”؛
ص- ختم الماعون بمنع القليل: “وَيَمْنَعُونَ اَلْمَاعُونَ” [سورة الماعون، الآية: 7]. وافتتاح الكوثر بإعطاء الكثير: “إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ اَلْكَوْثَر” [سورة الكوثر، الآية: 1]. ومن لطائف سورة الكوثر، أنها كالمقابلة لسورة الماعون التي وُصف فيها المنافق بأربع خصال، هي: البخل وترك الصلاة والرياء فيها ومنع الزكاة فذكر في مقابل ترك الصلاة: “فَصَلِّ”، وفي مقابل الرياء: “لِرَبِّكَ”، أي لرضاه لا للناس، وفي مقابل منع الماعون: “وَانْحَر” الذي أراد به التصدّق بلحم الأضاحي.
• أمثلة التناسب بين الآيات القرآنية
1. في آواخر سورة اَل عمران جاء قوله تعالى: “ولله ملك السموات والاَرض والله على كل شيء قدير” [سورة اَل عمران، الآية: 189]. “اِن في خلق اِلسموات والاَرض واختلاف اِلليل والنهار ءلاَيات لأولي اِلاَلباب” [سورة اَل عمران، الآية: 190].
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلتْ هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي، فأتاه بلال يُؤْذِنُه بالصلاة، فرآه يبكي فقال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فقال: يا بلال، أفلا أكون عبدًا شكورًا، ولقد أنزل الله عليَّ الليلة آيةَ: “اِن في خلق اِلسموات والاَرض واختلاف اِلليل والنهار ءلاَيات لأولي اِلاَلباب” [سورة اَل عمران، الآية: 190]. ثم قال: “ويل لمنْ قرأَها ولم يتفكَّرْ فيها”[1].
مناسبة هاتين الآيتين لما تقدَّمَهُما من آيات، أنَّ فيها رَدٌّ على اليهود، الذين قالوا: “إن اَلله فقير ونحن أغنياء” [سورة اَل عمران، جزء من الآية: 181]. وفيها أيضًا بيانٌ لهم ولسائر خلقه؛ بأنه سبحانه هو المدَبِّرُ لهذا الكون، والمتصرِّفُ فيه، وَفْقَ إرادته ومشيئته، لا رادَّ لمشيئته وقضائه، ولا معقِّب لحكمه وإرادته، وأن الإغناء والإفقار إليه وحده، وبيده مقاليد الأمور كلها، لا شريك له في ذلك: “ألاَ له الخلق والاَمر” [سورة الاَعراف، جزء من الآية: 54].
فمعنى الآيات ومناسبتها لما سبق هو: تدبروا أيها الناس واعتبروا، فيما أنشأْتُهُ فخلقْتُه من السماوات والأرض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم، وفيما يتعاقب فيكم من ليل ونهار، تتصرفون في هذا لمعاشكم وتسكنُون في ذاك راحة لأجسادكم، إذ في ذلك كله مُعْتَبَرٌ ومُدَّكر وآيات وعِظَات، فمن كان منكم ذا لب وعقل، يعلم أن من نسبني إلى أني فقير وهو غني، كاذبٌ مفترٍ؛ فإن ذلك كله بيدي، أقلِّبه وأصرِّفه، ولو أبطلتُ ذلك لهلكْتُم، فكيف يُنسَبُ فَقْرٌ إلى من كان بيده عيش، مَنْ وما في السماوات والأرض؟ بل كيف يكون غنيّاً من كان رزقُه بيد غيرِه، إذا شاء رزقه، وإذا شاء حَرَمه؟ فاعتبروا يا أولي الألباب.
ففي الآيتين الكريمتين إبطالٌ لدعوى اليهود مِنْ أساسِها، وتقريرٌ لحقيقة هذا الوجود، وما بثَّ فيه سبحانه من مخلوقات، تدل على أنه هو الأول والآخر، وأنه هو القابض والباسط، وأنه هو المغني والمفقِر؛ وأنه على كل شيء قدير، وتعالى الله عن كل قول يناقض ذلك ويخالفه.
هذا هو التصور الإسلامي الصحيح لخالق هذا الكون، ولا تصوُّرَ سواه، وهو التصوُّرُ الذي تُقِرُّ به الفِطَر السليمة، ولا تَقْبَلُ بسواه من التصوُّرَاتِ والمعتقَدَاتِ؛
2- في قوله تعالى: “يَا بَنِي إِسْرائيلَ اَذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ” [سورة البقرة، الآية: 40]. يُقَرِّرُ البقاعي وجهاً من وجوه التناسب والتناسل قائلا: “ويجوز أن تقرر المناسبات من أول السورة على وجه آخر، فيقال:
لمَّا كان الكفّارُ قسمين: قسم محضٌ كفره، وقسم شابه بنفاق وخداع، وكان الماحض قسمين: قسم لا علم له من جهة كتاب سبق، وهم مشركو العرب، وقسم له كتاب يعلم الحقّ منه، ذَكَرَ تعالى قسم الماحض بما يعمُّ قسميه: العالم والجاهل، فقال عز وجل: “إِنَّ اَلذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءانْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُومِنُونَ” [سورة البقرة، الآية: 6].
ثُمَّ أتبعه قسم المنافقين؛ لأنَّهم أهَمُّ بسبب شدة الاختلاط بالمؤمنين، وإظهارهم أنّهم منهم ليكونوا من خداعهم على حذر، فقال عز وجل: “وَمِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْاَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُومِنِينَ” [سورة البقرة، الآية: 8].
ولمَّا فرغَ من ذلك استتبعه من الأمر بالوحدانية، وإقامة دلائلها وإفاضة فضائلها، ومن التعجيب ممن كفر مع قيام الدلائل، والتخويف من تلك الغوائل، والاستعطاف بذكر النعم شرع في ذكر قسم من الماحض هو كالمنافق في أنّه يعرف الحقَّ ويخفيه، فالمنافق ألف الكفرَ ثُمَّ أقلع عنه، وأظهر التلبس بالإسلام، واستمرَّ على الكفرِ باطنًا، وهذا القسم كان على الإيمان بهذا النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل دعوته، فلمَّا دعاهم محَوْا الإيمان الذي كانوا متلبِّسِين به، وأظهروا الكفر واستمرت حالتهم على إظهار الكفر وإخفاءِ المعرفةِ التي هي مبدأُ الإيمان، فحالُهم كما ترى أشبه بحال المنافقين، ولهذا تراهم مقرونين بهم في كثيرٍ من القرآنِ.
وأخَّرهم لطولِ قصَّتهم وما فيها من دلائل النبوة وأعلام الرسالة، بما أبدى مما أخفوه من دقائق علومهم؛ فإنَّ مجادلة العالمِ ترسل في ميادين العلمِ أفراسَ الأفكار، فتسرع في أقطار الأوطار، حتّى تصير كالأطيار، وتأتي ببديع الأسرار.
ولقد نشر سبحانه وتعالى في غضون مجادلتهم وغضون محاورتهم ومقاولتهم من الجمل الجامعة في شرائع الدين التي فيها بغية المهتدين ما أقام البرهان على أنَّهُ هدى للعالمين، هذا إجمال الأمر وفي تفاصيله كما سترى من بدائع الوصف أمور تجلّ عن الوصف، تُذَاق بحسن التعليم ويشفي عيَّ جاهلها بلطيف التكليم، والله ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق[2].
والحاصِلُ: أنه إذا كانت الآيات البيِّنات، والسُّورُ المحكَمات، جاءت ملائِمة لحاجة أفراد المجتمع ومتطلباتهم، ومراعية مدى تعلُّقهم بما يحيط بهم وبما يرتبط بمعيشتهم، ومُبيِّنَةً ما تحتاجُهُ عقولُهم وأرواحُهم وأفئدتُهُم؛ فإنها قد جمعت بين أشياء قد تبدو متباعدة في الظاهر، لكنها في جوهرها وحقيقتها أكثر قرباً ومُعانقَةً وارتباطاً وتجانساً فيما بينها لحاجة الناس إليها، فكانت متناسبة غاية التناسب في الموضوع الذي وردت فيه.
فما أجمل علم المناسبَة وتاريخَه! وما أَحْوَجَنَا إلى عَقْلٍ وقَّادٍ يسبر أغواره ويُبرِزُ خصائصه وشماريخَه والتي لا تَظْهَرُ إلاَّ للمرتاض بقوانين البيان، وأساليب البديع الرَّيَّان.
هذا والله المستعان، وعليه التُّكْلان، ومنه التَّوفيق والتِّبيان.
——————————
1. رواه ابن حبان، في “صحيحه”.
2. نظم الدرر: 1/308 – 309.
-
جميل جدا
التعليقات