المجتمع المغربي والقرآن
المجتمع المغربي الآن، وعبر عصور تاريخيه الإسلامي، كان متميزا بتعلقه المتين بدينه والكتاب الذي نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، والمتتبع لهذا الانتماء القوي لكتاب الله عند المغاربة، يجد حقائق باهرة، ومعطيات متجذرة في عمق المجتمع، نتيجة الإيمان المتوطن في النفوس، والحب اللامنتهي لكل ما يمت إلى الدين الإسلامي بصلة سواء فيما يتعلق بالعادات أو العبادات.
وقد أخذ المجتمع المغربي شكله الديني النهائي منذ تأسيس أول دولة مغربية إسلامية، في نهاية القرن الثاني للهجرة، على يد الشريف مولاي إدريس الذي أعطى المثل من نفسه عندما حل بالمغرب فنشر تعاليم القرآن بداية من طنجة، حين إقامته بها والاستمرار بمنطقة وليلي التي أسس بها دولة إسلامية، كان للقبائل البربرية فضل دعمها واستمرارها.
إن حب المغاربة للدين الإسلامي وتعلقهم به، جعل للقرآن الكريم في المجتمع منزلة تعكس ذلك الإيمان العميق الذي ترجمه أفراد الشعب إلى الحرص، ومنذ القدم، على توجيه فلذات أكبادهم إلى الكتاتيب القرآنية، أملا في أن يحفظ أولادهم القرآن كله أو جزءا منه، وترجمه العلماء على مدارسته وعقد حلقات لتفسيره والتأليف في فضائله. وترجمه الحكام على عقد جلسات للاستماع إليه في قصور الملوك وكبراء رجال الدولة، وتنظيم دروس التفسير في المناسبات، وتنظيم قراءته أحزابا كل يوم بعد صلاة المغرب، وصلاة الصبح. وهذه الوظيفة الدينية أحدثت منذ عهد الموحدين بأمر من الخليفة عبد المومن في سائر بلاد المغرب.
وذكر المؤرخ ابن القطان أن المهدي ابن تومرت أخذ الناس بقراءة حزب القرآن إثر صلاة الصبح. وكانت الكتاتيب القرآنية تنشأ أولا بجوار المساجد في البادية والحاضرة، ولما توسع العمران صارت تقام في كل مكان. وتولى أمرها في أحيان كثيرة كبار الفقهاء وأهل الدراية بضبط الكتاب العزيز، وارتبط الكتاب بالمجتمع فكان للفقيه من الاحترام والتقدير، ما هو معروف عندنا إلى الوقت القريب، ونحن نأسف لغياب بعض العادات التشجيعية التي كانت ضمن نشاطات الكتاب. وذلك عندما يحفظ الصبي القرآن أو جزءا منه، فتقام احتفالات خاصة لها قوانينها المعروفة. وكان من اللازم الحفاظ عليها مهما تطور الزمان وتبذلت الظروف؛ لأن غيابها أدى إلى تقلص قيمة مؤسسة الكتاب في المجتمع بل أكثر من هذا فقد الكتاب احترام المجتمع بعد أن تحول عن مقصده الديني إلى مصدر للربح المادي.
وكانت مهمة الكتاتيب القرآنية في القديم بل وحتى عندما تطورت إلى مدارس قرآنية عصرية هي الحرص على أن لا يغادر التلاميذ المرحلة الابتدائية، إلا ومعهم زاد وفير من القرآن الكريم، بالإضافة إلى المواد الدراسية الأخرى. ولكن لما كانت الغلبة فيما بعد للمدارس العصرية الرسمية، انتفى شرط حفظ القرآن وإلزام التلاميذ به، واقتصر الحفظ على طلبة البوادي فوقع انحسار كبير، وكسر في المجتمع لم ينجبر. والظاهرة الناتجة عن ذلك والتي نراها اليوم هي اللجوء إلى المصاحف عند قراءة حزب في المساجد، وقد كان المومنون من مختلف الطبقات الاجتماعية يتحلقون لقراءة الحزب استظهارا من غير اعتماد على المصحف.
هذه الظاهرة اختفت، واختفت معها أيضا ظاهرة تشجيعية أخرى كانت مناسبتها في ليلة القدر حيث يتاح للصبيان والشباب الوقوف بالمحراب للإمامة بالناس بجزء من القرآن. ولكن ما يفقده المجتمع المغربي من عادات يعوضه بأخرى، وذلك كما هو مشاهد الآن، من تنظيم مباريات لحفظ القرآن وتجويده بمناسبة شهر رمضان؛ فإن هذه الظاهرة سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي أعادت كثيرا من الاعتبار لحفظ القرآن، وحفزت الأطفال والشباب على إتقان القرآن حفظا وتجويدا، لنيل الجوائز السخية.
وأحيت هذه الظاهرة كذلك مدارس قرآنية لها دور متميز في الأقاليم التي توجد بها، فربطت بذلك بين تقاليد الماضي، وبين مقتضيات التطور في العصر الحاضر.
ونتمنى من الله أن يستمر دورها هذا ويزداد تألقا لإقامة التوازن في مجتمع يتعرض كل يوم لمواجهات شتى. فإذا لم تكن هذه الدروع الإيمانية الوقائية موجودة وقوية ومتماسكة، ضاعت منارات الاهتداء، وضعفت مناعة التصدي، وهذا أمر لن يكون؛ لأن استمداد المثل من التاريخ، يفيدنا بوجود إضاءات لم تكن في غير المغرب. ومن تلك الإضاءات ما حدثنا به التاريخ عن وصول المصحف العثماني من قرطبة إلى مراكش في عهد الموحدين، واحتفاء الخليفة عبد المومن به؛ لأنه لما رآه بقرطبة تعلقت نفسه به، ولكنه لم يكن يرد أن يسلب قرطبة تلك الذخيرة العزيزة، حتى شاءوا أن يهدوه للخليفة بمحض اختيارهم وانتقل المصحف العثماني إلى المغرب ليتفنن المبدعون في تنميق خزانته وتزيين الآلة التي كان يحمل عليها، وقد وصف وزير عبد المومن في رسالة طويلة ممتعة تنبئ عن تقديس المغاربة لكتاب الله وتفانيهم في إضفاء ابتكاراتهم الحضارية على هذا المصحف بعد وصوله إلى المغرب عام 552.
يقول ابن طفيل: “… ثم إنهم لما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور، شرعوا في انتخاب كسوته واختيار حليته فحشروا له الصناع المتفننين من المهندسين والصواغين والنقاشين والمرصعين والنجارين. ولم يبق من يوصف ببراعة وبنسب إلى الحذق في صناعة إلا أحضر للعمل فيه”.
ويقول المؤرخ عبد الواحد المراكشي: “وهذا المصحف الذي ذكرناه.. يحملونه بين أيديهم أنى توجهوا على ناقة حمراء عليها من الحلي النفيس وثياب الديباج الفاخرة ما يعدل أموالا طائلة، وقد جعلوا تحته بردعة من الديباج الأخضر يجعلونه عليها وعن يمينه ويساره عصوان عليهما لواءان أخضران وموضع الأسنة منهما ذهب شبه تفاحتين، وخلف الناقة بغل محلى أيضا عليه مصحف آخر يقال أنه بخط ابن تومرت، دون مصحف عثمان في الجرم محلى بفضة مموهة بالذهب يكون هذا بين يدي الخليفة منهم”.
اقتصرت على هذا المثال فقط، لأنه فريد في التاريخ، لم يتكرر مثله. ومن جاء من الملوك بعد الموحدين كانوا يقدمون هذا المصحف المبارك بين أيديهم في حركات الجهاد، واستمر هذا الحال إلى عهد السلطان أبي الحسن المريني كما حدث بذلك المؤرخون، وكان السلطان عبد الملك السعدي عندما خرج لقتال البرتغاليين في معركة وادي المخازن عام 986 الموافق لـ 1578 ختم حفظة القرآن على أعلام الجيش مائة ختمة، وهذا دليل قوي على ما أثر في نفوس المسلمين من اقتران تلاوة القرآن بالانتصار في الحروب…
يتبع في العدد القادم بحول الله وقوته..
أرسل تعليق