..الطي الحقيقي أن تطوى مسافة الدنيا
هذه الحكمة من مشكاة قوله تعالى: “وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك ءاباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون” [سورة الاَعراف، الآيتان: 172-173].
فهذا خطاب كفاح من لدن رب العزة للأرواح من قبل أن يدرأها في هذا البعد الابتلائي من أبعاد الوجود، خطاب في أيس ليس فيه ليس، ويعدم فيه للزمان كل ميس، طاب في وجود هو الوجود وما دونه إنما يكون وجودا له مقاصد تقتضيها حكمة الموجد سبحانه، فمن مقام الوجود الذي انبسطت بعض معالمه في آية الذرّ المتقدمة وغيرها من آيات كتاب الله، لا وجود للزمان بالشكل الذي نعهده في حياتنا الدنيا.
عن هذا الوجود الابتلائي يقول تعالى: “اِنا جعلنا ما على الاَرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا” [سورة الكهف، الآية: 7]، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي فَقَالَ: “كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ” [أخرجه البخاري في صحيحه، رقم: 6416].
إن الوعي بهذه الحقائق في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع استدامة اليقظة والشهود من شأنه أن يثمر الاستبصار بطبيعة سرعة تصرم الحياة الدنيا مما يتجلى في مثل قوله تعالى: “يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا. نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أَمْثَلُهُم طريقة إن لبثتم إلا يوما” [سورة طه، الآيتان: 102- 104]، “قال كم لبثتم في الاَرض عدد سنين. قالوا لبثنا يوما اَو بعض يوم، فاسئل العادّين” [سورة المومنون، الآيتان: 112-113]، كما يثمر هذا الوعي الاستبصار بكون هذه الدنيا تطوى بكل أبعادها كطي السجل للكتاب “يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب، كما بدأنا أول خلق نعُيده” [سورة الاَنبياء، الآية: 104].
وهذا الشهود، هو الذي سماه الشيخ بن عطاء الله رضي الله عنه، “الطي الحقيقي” صرفا لهمم السالكين عن التعلق بالمفهوم السائد للطيّ، من أنه طي المسافات لأهل الكرامات، وتوجيها لهذه الهمم إلى هذا المفهوم النوراني المُنجي للطيّ، وهو مفهوم تضمحل فيه ومعه رسوم الدنيا، لكونها لا تعدو أنها وجود ابتلائي، وتحصل معه الإناخة براحلة الهمة في الوجود الأصلي، الذي هو الآخرة مصداقا لقوله تعالى: “وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون” [سورة العنكبوت، الآية: 64]، وقول الشيخ رحمه الله “حتى ترى الآخرة أقرب إليك منك” قوي الدلالة على هذا الخفض والرفع، الخفض للمؤقت، والرفع للدائم، في ارتكاز إلى جوهر الذات المعبر عنه بقوله “إليك” وتوعية بفناء آنية الذات، وهو المعبر عنه بقوله “منك” إذ الأول من الدائم، والثاني من الزائل.
والحمد لله رب العالمين
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
أرسل تعليق