الطريق التربوية من القرآن
لقد اعتنى علماء الشرق بقواعد التربية الحديثة فألفوا فيها تأليف عديدة نقلوا فيها عن علماء التربية اليونانيين والألمانيين والفرنسيين والأمريكيين، كل طارف وتالد، وأصبحت المكتبات تزخر بكثير من هذه الكتب التي كان من بوادرها أن جعلت المربيين المسلمين مدينين لعلماء التربية الغربيين بما تلقوه عنهم من هذه الطرق التربوية، يعيشون على فتات موائدهم مطأطئين رؤوسهم أمام هذه الطرق التي بهرهم بريقها مترسمين خطاها مقتفين آثارها عاملين على تطبيقها في مدارسهم جاعلين هذه الطرق المقياس الأكيد في نجاح المعلم أو فشله.
وإذا كنا نقدر مدى أهمية هذه الطرق ونجعلها عاملا قويا وحقيقيا في نجاح المعلم أو فشله في قدرته على السير بتلاميذه وطلبته إلى الأمام، وفي شحذ قرائحهم وتقوية معلوماتهم وإذكاء روح العمل فيهم، إذا كنا نقدر هذا فإنما الذي نعيبه على كثير من علماء التربية المسلمين، إن لم نقل كلهم هو تكاسلهم وتقليدهم وجهلهم أو تجاهلهم لما يزخر به القرآن الكريم وبليغ السنة النبوية من دقائق ورقائق تبهر كل من هب ودب في هذا الميدان، وتجعل من كبار علماء التربية الغربيين تلاميذ بسطاء مدنيين للقواعد التربوية التي يستنبطها علماء التربية المسلمون من كتابهم المقدس وسننه نبيهم الطاهرة.
نعم، لو تناول علماء التربية المسلمون آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في نشر تعاليم الإسلام المثلى وتعميم الوعي الإسلامي والهداية الإلهية الكاملة، لو تناولها بالدراسة لاستنباط قواعد بيداغوجية وقوانين تربوية… لو دخلوا المدرسة القرآنية الإلهية وسبروا أغوار ما فيها من أسرار بلاغية وحكم بيانية، واستكنهوا حقائق التنزيل وما يهدف إليه من تربية مثلى حققت أهدافا سامية نبيلة بأخصر طريق وأمتن أسلوب وأحسن قواعد لم يتفطن لها حتى علماء التربية المعاصرون لو دخلوا هذه المدرسة القرآنية التي جعلت هدفها، والتي كان أول ما نزل منها قوله تعالى: “اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الاِنسان ما لم يعلم” [سورة العلق، الآية:1].
لو دخلوا هذه المدرسة القرآنية والمدرسة النبوية لاستنبطوا طرقا تربوية يشع منها نور الهداية وتفيض منها قوة البيان، ولكان قبس الهداية الإلهية والنبوية يفيض ضياؤه ويشع نوره على العالم الإسلامي من مدرسة المعلمين أيضا التي صارت مسلكا ضروريا لكل من يريد أن يؤدي رسالته التعليمية كاملة وعلى وجه أتم، لو فعلوا ذلك لنهلوا من حياض بلاغة القرآن الكريم وسنة الرسول. ولعملوا أنهما الأصل الأصيل لكل الطرق التربوية اليونانية السقراطية والأمريكية والألمانية.
ولكانوا مدينين لكتابهم المقدس وسنة نبيهم الكريم بدل أن يدينوا لعلماء الغرب وأن يعيشوا على فتات موائدهم التربوية ولكنهم فعلو عكس ذلك: فأهملوا مصدر التشريع الإسلامي:القرآن الكريم وأحاديث سيد الرسل عليه السلام، فلم يعيروهما التفاتة واحدة ليستخرجوا من بحرهما الزاخر ما هو في الحقيقة أعظم نبراس لكل معلم مسلم يضيء له الطريق ويسلك به أخصر سبيل وليستنبطوا قواعد أكثر نصاعة وأجدى فائدة وأمتن اتصالا بحياتنا من القواعد التي قلدوا فيها اليونانيين قديما والألمانيين والأمريكانيين والفرنسيون… حديثا ولم يكن ابتعاد بعض علماء التربية المسلمين عن البحث في مناهج القرآن والسنة إلا لأنهم جهلوا أو تجاهلوا علما مهما من علوم اللسان العربي. وهذا العلم هو الأساس والوسيلة في معرفة أسرار الكلام العربي وهو الآلة القوية في استنتاج ما يحتوي عليه من طرق تعبيرية تربوية بها يتأتى إيصال المعنى إلى أذهان المخاطبين في أحسن الأحوال، ذلك العلم هو علم البلاغة الذي أرى أنه هو بالذات علم الطرق البيداغوجية على حد تعبيرهم وعلم الطرق التربوية على حد تعبيرنا، فدراسة هذا العلم دراسة منهجية موضوعية أساس قوي في اطلاع على أسرار الكلام العربي عموما ونصوص القرآن والسنة خصوصا، وفي استكناه مختلف التعابير والأساليب ومعرفة ما تهدف أليه من نكت وأبعاد في إيثار جملة على جملة وأسلوب على أسلوب، ولذلك نرى علماء البلاغة في تعريفهم لهذا العلم مطبقين على هذا المعنى، فقد نقل شمس الدين ابن القيم الجوزية في كتابه “كتاب الفوائد”. ا
لمشوق إلى علم و القرآن وعلم التنزيل: أن بعض العلماء قال أن حد البلاغة بلوغ الرجل بعبارته كنه ما في نفسه مع الاحتزاز من الإيجاز المخل والتطويل الممل. قال: وقال قوم: البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، وقيل البلاغة الإيجاز مع الإفهام والتصرف في غير إضجار وقيل إنما يستحق الكلام اسم البلاغة إذا سابق لفظه معناه إلى قلبك”.
قال: ويجوز عندي أن يكون الكلام البليغ الذي بلغ من جودة الألفاظ وعذوبة المعاني إلى غاية لا يبلغ إلى مثلها الأمثلة.
وهكذا نرى أن البلاغة هي البلوغ بأسرار كلامك إلى أفهام مخاطبيك بأبسط عبارة وأرفع أسلوب مع عدم الإيجاز المخل والتطويل الممل، وهذا بالذات كل ما يستهدفه علماء التربية من وضع تلك الطرق البيداغوجية التي يسلكها المقتدرون من الأساتذة والمعلمين لتوصيل مختلف المعلومات إلى أفهام تلاميذهم على مقتضى السن والبيئة.
وإذا كان علماء التربية في منتصف القرن العشرين يرون أنه يجب أن تنتزع عن التعليم صبغة الدكتاتورية التي يسيطر فيها المعلم على التلاميذ، والتي يكون بها في أثناء درسه الحاكم بأمره يخبرهم ويحشو أدمغتهم بما يريده لهم من معلومات وهم أمامه سلبيون يقبلون ويستمعون لكل ما يلقى عليهم فقط لا يناقشون ولا يستنتجون.
ويرى علماء التربية بدل ذلك أنه يجب أن يصبغ الفصل بصبغة ديمقراطية يكون المدرس والتلاميذ فيها سواسية في المناقشة والحوار لا يمتاز عنهم إلا بالتوجيه وتصحيح الأغلاط والنفوذ الإداري لتسود الفصل الدراسي كبرلمان أو كمجلس أمة يوجهه المدرس الذي أصبح كثيرا ما ينتزع مقعده من صدارة الفصل الدراسي إلى مؤخرته أو جانبه يراقب نشاطه ويذكي في أفراده روح العمل والمثابرة والجد، يهنئ المصيب، ويأخذ بيد المخطئ، ويعدهم الأعداد الكامل لتيسير مجالسهم مستقبلا، يخلق منهم فوارس ميدان يتسابقون في فصاحة القول وصواب التفكير والاتزان في العمل، إذا كان علماء التربية في منتصف القرن العشرين يرون هذا ضروريا وحتميا في الأعداد الكامل للتلاميذ الذين هم عماد المستقبل ورجال الغد، فإن القرآن الكريم في طرقه التربوية قد سبقهم إلى هذا بحوالي أربعة عشر قرنا عندما أثار تلك العقيدة الضخمة الشاملة، عقيدة التوحيد عقيدة العزة لله ولرسوله للمؤمنين حيث جعل صفحة هذا الوجود بما فيه من أسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج وأرض ذات خضرة ونبات زمن حوادث مكرورة وقضايا كونية كبرى، جعل كل هذا وغيره مما لا يحصى مسرحا لعقل الإنسان وفكره ويده وشمه وذوقه وبصره وكل جوارحه، يوجهه إليه في كثير من آياته ليغوص فيه ويتملاه ويدرسه “تأمل ساعة خير من عبادة سنة” ليستنتج منها تلك العقيدة الضخمة التي أنقدت البشرية من العبودية والخضوع والتدلل لغير الله خالق الكون ومدبر أمره، وجه الإنسان إلى النظر في ذاته واصل نشأته “فلينظر الاِنسان مما خلق” [سورة طارق، الآية:5] كما وجهه إلى النظر في طعامه وشرابه وكيفية تكوينهما “فلينظر الاِنسان إلى طعامه إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الاَرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا” [سورة عبس، الآية 24]، ثم بعد ما يطلق القرآن للإنسان عنان التأمل ويأمره به ويحتمه عليه، يكر عليه بالسؤال عما استنتجه في تأملاته وعما أوحت به نظراته كما سيأتي مفصلا وموضحا في موضوع الاستفهام في القرآن وبذلك يأخذ القرآن الإنسان إلى هذه المعجزات الكامنة فيه وفيما حوله من مظاهر الكون التي يطالعها صباح مساء، مبتعدا به عن الفلسفات المعقدة، وعن المشكلات العقلية العويصة التي ليست في متناول عقول عامة المؤمنين، إذ القرآن نزل بلسان عربي مبين ليخاطب كل إنسان في كل بيئة وفي كل زمان وعلى مختلف المستويات، ومن هذا أيضا نأخذ أن القرآن الكريم هو أول من وضع طريقة التعليم الفردي واهتم بها الاهتمام الكامل، حيث جعل صفحة الكون مرتعا للعقول والأنظار يستجلى منها كل على قدر طاقته واستعداده، ولم تظهر هذه الطريقة إلا في مستهل هذا القرن العشرين، وقد كان المربي “فردريك بيرك” 1924-1862 من أوائل من أحدثوا تقدما ملحوظا في تطبيقهاوتسمى هذه الطريقة بطريقة التعاقد التي فيها يتعاقد التلميذ مع المدرس على القيام بواجبات مختلفة ينجرها في أوقات محددة وبتطبيق هذه القاعدة أصبحت الفصول الدراسية كمنتديات أو قاعات مؤتمرات وأصبح الأساتذة كخبراء ومستشارين.
ولقد سلك القرآن الكريم في تربيته وتعليمه وفي تلقين مثل الإسلام ومبادئه طرقا تربوية شتى سبق إليها جميع علماء التربية القدامى والمحدثين، كما امتاز بمناهج وأشكال لم يتفطن إليها لحد الساعة أي أحد مهم، فربى وهذب عن طريق الأخبار بالحوادث الماضية وقصص الأمم السابقة “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب” [سورة يوسف، الآية: 111] “نحن نقص عليك أحسن القصص” [سورة يوسف، الآية:3] وعالج ترسيخ العقيدة الإسلامية وتبثها عن طريق المحاورة والمجادلة، “وجادلهم بالتي هي أحسن” [سورة النحل، الآية:125]، “قل من يرزقكم من السماء والاَرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر” [سورة يونس، الآية 31]، “قلهل من شركائكم من يهدي إلى الحق” [سورة يونس، الآية:35]، “أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم” [سورة الرعد، الآية:18] وأمر بالتنقيب والبحث واستعمال العقل والجوارح ليترك للإنسان حريته وللأفكار مجالها “قل انظروا ماذا في السموات والاَرض” [سورة يونس، الآية111]، واستعمل طريقة القياس فقياس بين الأشباه والنظار.
أرسل تعليق