الشباب مقياس يجعل الحياة متوهجة غير عاطلة…. (12)
إن شبابنا الواعي لن يبخل على الناس من البداية إلى النهاية لإيجاد إنسان قوي رشيد، ينبت نبتة صالحة في كل أرض يحط بها متكاملة الفضائل، يهتم بالوقاية من شرور الأشرار وبالحماية من فجور الفجار، شباب يبني لنا أمتن بناء يصوننا من الشقاق والإسفاف والكفر والإملاق، ويحمي عرين شرف الأمة ويذوذ عن عرضها، والشباب ليس ذلك المدهوش المبهور الذي يركن إلى الاستخذاء والضعف المنهوك، ولكنه عامل التصحيح الحضاري والإخاء الإنساني تمهيدا لإبلاغ الإنسان رشده، وفتح آفاق التقدم المبني على العقل والروح والقلب والجسم، يرد عن الإنسانية عاديات التردي في سحيق الفساد والإفساد، والسمو بها إلى ذرى المجد ومعالي الأمور، ويصدح مع الشاعر القائل:
ما بال مجتمع الإسلام في سقم أمضه الـــداء والآذان فــــي صمم
عصفت بوحدته الأهواء فانفصمت خير الأواصر من ديـــن ومــن رحم
ضاعت هويته مــن بعــد فــــرقته فغدا كيانا لعمري شبــــه منعدم
وسوف أقف مع الشباب: وهو يستكنه سر الوجود فيما أبدع المولى عز وجل، وما أودعه من أسرار في البر والجو والبحر، وإن تطور البشرية اليوم وبهول التواصل بين الناس وسرعة المواصلات، كل ذلك سهل على الشباب إلى مشاركة الآخر وتنظيم العلاقات الإنسانية؛ ولأن المسلمين مكتوب عليهم أن يواجهوا قضايا عصرهم ولا يفرون منها في هذا العصر الذي عصفت فيه الحضارة وعبثت بالإنسان عبث الوليد بالقرطاس، وقد يكون الرجاء وقد يكون العزاء في تشخيص أمراضنا، وتلك خطوة على طريق العافية، وإلا فكيف يصف السقيم دواء لسقيم أكثر منه سقما، ومن لنا غير الشباب يعرفنا بدقة على حقيقة العالم الذي نعيش فيه، ولا ننسى أن معدن الشباب لا يختبر في أوقات الرخاء وإنما الامتحان في أزمان الشدائد العاصفة.
وشتان بين الإبداع والانطواء، وليس متيسرا للبشرية أن تطرق دروبا شائكة في مشوارها الطويل المرهق، وما يعترضها من الأكاذيب وأساليب الزيف، بيد أن الأخذ ببعض المعطيات ستضع الشباب في موقف حرج للغاية إذا لم يرتبط بقضايا الناس المصيرية، ومشاركتهم في تنوير صاعد، والالتحام بالواقع اليومي وتبديل ملامح هذا الواقع والحد من الفوضى والتردي، والتغلب على المواقف النفعية المتخاذلة، من بعض السماسرة والأفاقين، ومجابهة موجات الإسفاف بكل ما هو مجد ومفيد وصالح لبناء شرف الأوطان، فمجتمعاتنا الإنسانية تحتاج إلى وقفة شاملة تتناول الأسس والجذور ولا تتوقف عند المظاهر والقشور.
ووظيفة الشباب ليست وقوفا جامدا كالتماثيل وشواهد القبور، إنها معاناة ليبرز للنضال والمقاومة لفضح كل انحراف أو خيانة أو ما يشابهها، بين ضلال وعمالة وتواطؤ بل له دور أكبر كمصدر أداة لنور يضيء للإنسانية سبل الخير والحياة الكريمة، إن هذه السمعة الطيبة التي يتمتع بها الشباب تعتمد على تضلع كبير وباع طويل في العمل والعلم والخبرة والامتحانات القاسية، التي تصنع تاريخ الإنسانية من جديد ويعالج قضاياها حسب رؤيته وموقفه من هذا الإنسان الضائع المشرد المفجوع، والذي يحيا موتا يوميا أخرس يعيش في وضع من الشقاء التاريخي لا مثيل له، بحكم الفساد الذي استشرى في أوصال البشرية، ومع ذلك فبشائر النصر والفتح آتية على أيدي الشباب، وسيبلغ نور الإسلام إلى ما بلغه الليل والنهار وسيدخل إلى كل بيت، والشباب قادر على تقديم ما يحتضن كل جديد، ويستوعب كل حادث؛ لأنه مع الله في الأرض والصلة بينه وبين ربه صلة مباشرة، لا أمت فيها ولا التواء، ورغم كل ما يتعرض له من تشويش فهو مؤهل نفسيا وعلميا للصدع بما يراه، وجرأة في اقتحام لجة المشاكل الشائكة بلا تهيب ولا وجل وبلا اندفاع ولا شطط والتعامل معها ومعالجتها بما هو أنسب وأنجح وأهم، وأقوى وأكثر فاعلية وتأثيرا.
ومهما يكن من أمر؛ فإن أسلوب الشباب من شأنه أن يثير لغط الجهلة وغرور الفاسدين، فتلك هي الفاضحة الموضحة، وتوضيح الواضح مشكل وإذا قال هؤلاء: هذا الصبح ليل أيعمى العالمون عن الضياء؟ كما أن تحليل أوضاع البشرية تبدو أهميته جادة، لتسليط الضوء في محاولة لكشف مواطن القوة والضعف، لسد ثغرة من ثغرات مظاهر الفقر والجهل والمرض، وكبح جماح هذا الثالوث المخيف، الذي أرق بعفونته كاهل الإنسانية وهي تشاهد ملايين الناس مقهورين ومنزوين، يعيشون على هامش الحياة العصرية الشيء الذي نتج عنه الزندقة والتفسخ الأخلاقي وعلى ضوء ما تقدم فالمفتاح لحل هذه المعضلة الإنسانية بيد الشباب، الذي يعبر بالإنسان من الماضي إلى الحاضر والمستقبل في ليل يحجب النهار في ارتكاس واقع وأليم، لأمة أمست سبة ووصمة عار في جبين البشرية، يوم وقف دعاة التخلف ضد حيوية الشباب لإسكاتهم وكبت أنفاسهم، ويا ليتهم تركوا الدعوة تمضي في الناس بلا إكراه أو قمع لإيقاظ الإنسانية الفاضلة من نومها مسلمين وغير مسلمين، ورائد المجد والكمال فيها هو الشباب بحكمته التي تطير في الآفاق، ويتناقلها الناس من قطر إلى قطر، وإن فجر الشباب سيطلع حتما في توثب روح واستنارة فكر وطفرة أمل وصلابة عزيمة.
والإنسان إذا وهى دينه يقاد من بطنه وفرجه أكثر، مما يقاد من عقله وضميره، والشباب يرفض حتما هذا الهوان في الأرض؛ لأنه رفيع القدر بانتسابه إلى تعاليم السماء، فإلى متى تظل أمتنا تنام في النور ويستيقظ الأنام في الظلام؟ ومن حق هذه الأمة أن تفتش عن بلايا الضعف فيها، وعن عوامل التخلف والإذلال، وعلى جمود الفهم والتراخي والتواكل، والشباب مدعو قبل غيره إلى تحطيم العوائق، وفي مقدمة ذلك تدمير الأنانية التي تعد حاجزا يحجب الطريق لرؤية الآخر، والأنانية لا يقال في حقها علة اجتماعية، بل هي مانع اجتماعي وخطر على الوضع الإنساني.
والشباب المخلص لله في إيمانه برسالة لم ير في طريق الحياة ما يخيف، ولم يتصور في داخله وهما يزعجه أو يقلقه، وفي إشعاع نور التفاؤل في قلبه، لا يرى فيما يقدر عليه ظلاما ينسج له صورا من الوهم العائق عن الحركة، أو عدم الإقدام والشعور بالاضطراب والقلق، ومع وجود هذا الظلام فمن غير الشباب يقدر على إقناع الناظرين بوجود أشعة الحق من وراء هذا الظلام؟، فالعبء فادح والجهد مثقل والتكليف شاق، والمفاجأة تدهش الألباب، ولكنه تشريف دونه كله شرف في هذا الوجود، فالشباب صرخة في أذن التاريخ الأصم لتصحيح الأغاليط، وسبحان موزع العزائم والعقول، ويرحم الله مثل هذا الشباب بسط للإنسانية مما اهتدى إليه، والواجب علينا أن نستفيد مما حققه، وأن نشجع غيرنا على نحو تفتح فيه طاقات وملكات، لتتحول هذه الطاقات والملكات، إلى أذن الآخر، فلا تطغى علينا الأثرة والاستحواذ المؤديان إلى الصدام والصراع، وبذلك تعدل المواقف والمواقع، وتضبط بميزان العدل والإنصاف وعند الوازن يتسابق أهل الأرض جميعا على طريق أن الخيرات في هذا العصر المائج المضطرب الذي تآكلت فيه القيم الإنسانية..
يتبع في العدد المقبل…
أرسل تعليق