الدكتور لحسن تاوشيخت… وتميز التراث المغربي
يؤكد الدكتور لحسن تاوشيخت، أستاذ العمارة الإسلامية والأركيولوجيا وعلم الآثار بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، أن الحضارة الإسلامية في بلاد المغرب، أسست تراثا معماريا متنوعا ونوعيا، مَّثل تراكما غنيا، كما أكد أن المغرب يتوفر على رصيد وثائقي مهم من التراث المخطوط، موضحا أن هناك مجهودات محمودة، تبدل للمحافظة على هذا الكنز المخطوط من طرف مجموعة من المؤسسات.
جريدة ميثاق الرابطة، التقت بالدكتور لحسن تاوشيخت، وتطارحت معه مجموعة من القضايا من قبيل الخصوصيات المعمارية للمدن المغربية، والحالة التي أصبحت عليها عديد من آثار المغرب، ومميزات المخطوط المغربي عن غيره من المخطوطات، وغيرها من الأسئلة..
1. أستاذي الفاضل، اشتغلتم منذ أكثر من عشرين سنة على موضوع العمارة الإسلامية وعلم الآثار، في نظركم ما هي الخصوصيات المعمارية للمدن المغربية؟
لقد صاغت الحضارة الإسلامية في بلاد المغرب تراثا معماريا متنوعا ونوعيا؛ يمثل تراكما غنيا يعكس تفاعل معطيات دينية، وتاريخية، وجغرافية، واقتصادية، واجتماعية وفنية. تشهد بذلك الحواضر المغربية الكبرى مثل: مراكش، وفاس، ومكناسة الزيتون، وسبتة، وغيرها… أما عن العمارة الإسلامية في المغرب فمع الأسف معظم ما كتب عنها هو بلغة أجنبية، وخاصة الفرنسية، ومن أهمها كتاب “الهندسة المعمارية للغرب الإسلامي” لجورج مارسيل، كما ظهرت مؤخرا بعض الكتابات العربية عبارة عن ندوات أو أطروحات جامعية، وهي مفيدة بالرغم من قلتها في تتبع مصادر العمارة المغربية في بعض الحواضر القديمة كفاس ومراكش وسجلماسة وسلا وغيرها.
والمغرب كباقي الدول الإسلامية يتميز بمجموعة من البنايات التي تعود إلى العهد الإسلامي، غير أن وظيفتها تختلف من حيث كونها إما عمارة دينية كالمساجد والأضرحة والزوايا، أو عمارة سلطوية أو عمارة اقتصادية كالفنادق والأسواق والمصانع والقنوات المائية… أو عمارة عسكرية كالحصون والقصابات والقلاع ثم العمومية كالحدائق والحمامات والجسور…
والعمارة الإسلامية دخلت إلى المغرب منذ الفتح الإسلامي أواسط القرن الأول الهجري / السابع الميلادي. وكانت في الأول عبارة عن رباطات وقلاع؛ لأن ظروف الفتح الإسلامي فرضت على المسلمين إنشاء الحصون والقلاع للتحصين والدفاع لتوسيع رقعة الفتوحات الإسلامية. فبنيت مجموعة من القلاع في مناطق إستراتيجية، ولم يشهد المغرب بناء المسجد إلا في حدود سنة 85 هـ على يد عقبة بن نافع بمدينة أغمات (قرب مراكش)، ثم توالت بعد ذلك عملية بناء المدن والحواضر الإسلامية بالمغرب التي كان الجامع هو الحجر الأساسي في بنائها؛ لأنه يتوسط باقي العمارات. وكان قبلة لكل سكان المدينة لأداء الصلوات وللتشاور والاجتماعات، بحيث كان المسجد يؤدي الوظائف الدينية والسياسية والعدلية والاجتماعية، بعكس المعابد القديمة التي كانت تتخذ فقط وظيفة دينية أو تعبدية.
والمسجد في المغرب بصفة عامة عرف تطورات بنائية متنوعة حسب كل فترة زمنية، ففي عهد المرابطين عرف المسجد بالرونق والزخرفة، والتلميق، بينما عرف في عهد الموحدين بالاتساع وقلة الزخرفة وتغيير وجهة القبلة، وفي العهد المريني أصبح للمسجد فقط وظيفة للتعبد بينما أسست مدارس بجوار المساجد لأداء الوظيفة التربوية. وطبعت المساجد السعدية بتأثيرات تركية، بينما جمعت المساجد العلوية بين الخصوصيات المرينية والسعدية من حيث الاتساع والزخرفة.
يتميز المغرب بموقعه الجغرافي والاستراتيجي بين إفريقيا جنوبا، وأوروبا شمالا، وباقي العالم الإسلامي شرقا، وبالتالي فالعمارة الإسلامية بالمغرب تأثرت بكل هذه الخصوصيات الإفريقية والمشرقية والأوربية، فضلا عن المميزات المحلية التي ورثتها من الحضارات السابقة عن الإسلام. وبما أن العمارة هي ذلك الإرث المادي العياني الذي يعبر عن حضارة إنسان معين في مكان محدد، فقد تميزت العمارة المغربية بخصوصيات تميزها عن باقي العمارة الإسلامية للبلدان الأخرى؛ وذلك من ناحية: أولا، من حيث اعتماد مواد البناء المحلية المعتمدة أساسا على الطابية، وحجر الكدان، والقرمود، والأجور والخشب الأرز… وثانيا: من حيث الهندسة التي اعتمدت جميع أشكال الزخرفة من زخرفة مكتوبة إلى زخرفة هندسية إلى زخرفة نباتية، وبأشكال مختلفة، منها المصبوغة والمنقوشة والمركبة. ومن حيث الخطة والتصميم فقد تأثرت بما وجد محليا وبما تم استيراده من بلاد الأندلس، وبما جلبه المهندسون والبناءون من المشرق. كل هذا أعطانا شكلا هندسيا معماريا يختلف عن باقي الهندسات والعمارات في البلاد الإسلامية الأخرى. ويمكن ملاحظة ذلك في شكل المساجد المغربية مقارنة مع المساجد المشرقية، وتظهر الصومعة المغربية ذات الشكل المربع أكبر دليل على ذلك.
وقد عرف الفن المعماري المغربي تطورات متتالية من خلال مختلف العهود والدول التي تعاقبت على حكم المغرب، حيث يتسم كل عصر بمميزات خاصة عن باقي العصور السابقة، فإذا كان المرابطون اهتموا ببناء الحصون والقلاع لحراسة الممرات الإستراتيجية لتجارة القوافل، ولم يشهد عصرهم سوى بناء مدينة كبيرة واحدة هي عاصمتهم مراكش، فقد تميزت العمارة الموحدية بكثرتها وعظمتها مع قلة اعتماد الزخرفة وبتغيير وجهة قبلة المساجد التي تعود إلى الفترة المرابطية. وعرفت العمارة المغربية أوجها في العصر المريني، حيث شكلت مدرسة قائمة الذات تمتاز بالدقة وبالنحت والنقش وتزيين الجدران بالفسيفساء والزليج واستعمال الخشب بكثرة، مع اعتماد مختلف أشكال الخط العربي في النقوش المكتوبة. وفي العهد السعدي عرفت العمارة المغربية التقاء التأثيرين التركي والبرتغالي في بناء الحصون والقلاع وفي الزخرفة. وخلال الفترة العلوية جمعت العمارة المغربية بين التقاليد المرينية والسعدية من حيث اتساع الرقعة، وفخامة البناء، ومتانة الأسوار، والعلو الشاهق واستعمال عناصر الفن التقليدية. وبدون ذكر الأمثلة فكل عصر عرف بناء مجموعة من العمارات -سواء كمدن أو بنايات- يمكننا من خلال دراساتها ودراسة أهم عناصر زخرفتها معرفة العهد الذي ترجع إليه، وكذا التأثيرات التي عرفتها فيما بعد.
كما أن لكل منطقة خصوصية معمارية تميزها عن باقي المناطق، لذلك فالمغرب، وإن تأثر كثيرا بما وجد من عمارات ببلاد الأندلس، له خصوصيته من حيث ما وجده المسلمون بهذه البلاد قبل الفتح الإسلامي من عمارات أمازيغية ورومانية وفينيقية وغيرها، وبما استورده مباشرة من الشرق الإسلامي. وبالتالي فمن الطبيعي أن تكون عمارته تشبه إلى حد ما العمارة الأندلسية، ولكن بخصوصيات محلية فضلا عن التأثيرات الشرقية، لذلك لا يمكن من وجهة نظري أن نقول أن العمارة المغربية والعمارة الأندلسية وجهان لعملة واحدة، فلكل بلاد طابعها المعماري وفقا للبيئة المحلية والعقلية المجتمعية وللتأثيرات الأجنبية، فكل هذه العناصر الثلاثة لها سمة تطبع الطراز المعماري من حيث مواد البناء والتصميم والزخرفة والوظيفة.
2. كيف تقيِّمون الحالة التي أصبحت عليها عديد من آثار المغرب؟ وماهي السبل الكفيلة للحفاظ على هذا التراث المعماري الفريد؟
أشكر الأخت الكريمة على هذا السؤال القيم؛ ففي الحقيقة يحز في أنفسنا -ونحن المسلمون الذين يجب أن تكون الآثار خير معبّر عن حضارتنا- فما نشاهده يخالف هذه النظرة، حيث إن آثارنا أصبحت في وضعية يرثى لها، وأظن أنه لولا الجانب السياحي لكانت هذه الآثار في خبر كان. فالآثار المندثرة أصبحت تشكو حالة الضياع، والآثار التي لا زالت حية بعد أن شهدت عملية “ترييف” في السنوات السابقة أصبحت اليوم محطة استيلاء وشراء من طرف الأجانب الذين حولوها إلى ملكيات خاصة على شكل رياضات وملاهي لا يدخلها في الغالب إلا الأجانب، بينما هي ممنوعة حتى على مالكيها السابقين من المغاربة. وهذا ما نلاحظه في كل المدن العتيقة التي استهوت أصحاب الأموال الأجانب في حين استهونها سكانها الأصليون وباعوها بأرخص الأثمان. وفي الحقيقة إن المراكز التي تعنى بالدراسة والمحافظة على الطراز المعماري المغربي هي قليلة جدا، ولا تتعدى أصابع اليد الواحدة، ومن أهم هذه المراكز نجد “المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث” بالرباط؛ الذي يهتم بدراسة الآثار القديمة، وتأهيل التراث الوطني لكي يلعب دوره كمحرك لعجلة الاقتصاد الوطني، كما يقوم هذا المعهد بمجموعة من الإصلاحات والترميمات للمآثر المهددة بالاندثار، كما ينجز مجموعة من الحفريات والأبحاث بالمواقع الأثرية المغربية التي تعود إلى عهود تاريخية مختلفة.
المعهد الثاني، هو “المدرسة المحمدية للمهندسين” بالرباط، التي تخرّج كل سنة أفواجا من الأطر المغربية ذات التخصص في الهندسة المعمارية، إلا أن هذه الأطر غالبا ما تهتم بالهندسة العصرية أكثر من الهندسة التقليدية أو القديمة.
وهناك معهد ثالث هو “مركز صيانة التراث المعماري بمناطق الأطلس والصحراء” بورزازات، الذي يقوم بمجموعة من الدراسات والإصلاحات للأشكال المعمارية الموجودة خاصة بواحات جنوب الشرقي المغربي، ذات خصوصية من حيث مواد البناء الطينية والهندسة المعمارية على شكل قصور وقصابات.
وتبقى المسؤولية جماعية بين الذين باعوا هذه الأملاك وبين الدولة التي لم تحاول حماية هذه الآثار بسَّن قوانين للمحافظة عليها ومنع بيعها لغير المغاربة. فالعولمة لم تترك خصوصية ثقافية متميزة إلا وتحاول أن تسيطر عليها وتمحوها من الوجود كذاكرة وطنية وحضارية. وهذا ما عرفته عمارتنا القديمة لأهم المدن المغربية وبالتالي فإن حماية هذه العمارة يستوجب أولا التحسيس بأهمية هذا الإرث الجماعي، ثم ثانيا بحمايته والمحافظة عليه بكل الوسائل، وثالثا بتأهيله ليواكب مسار التنمية المستدامة.
والعمارة المغربية تعرضت لهجمتين شرستين، تمثلت الأولى في عملية “الترييف”؛ والتي تزامنت مع الدخول الاستعماري وبنائه للمدن العصرية بجانب المدن التاريخية. والهجمة الثانية هي التي نعيشها اليوم مع العولمة التي تحاول القضاء على ما تبقى من تراثنا المعماري، وذلك باعتماد كل الأشكال البنائية المستوردة، والتي لا تتلاءم بتاتا مع البيئة المغربية؛ من الاعتماد على الزجاج في البناء والتصاميم الغربية، في حين العمارة المغربية صالحة لكل زمان ومكان، وقد عرفت مجموعة من التطورات التي تم تكييفها مع الطبيعة، ومع نمو العقلية عند الإنسان المغربي.
فالعمارة في آخر المطاف هي عبارة عن تراكم للتجارب الإنسانية بما يتلاءم والظروف الطبيعية والاقتصادية، فما يصلح لبيئة مغربية ذات مناخ متوسطي صحراوي لا يصلح للمناطق الأخرى ذات مناخ مختلف، وقد أكدت الدراسات أن التصاميم المعمارية والمواد البنائية التي اعتمدتها العمارة المغربية تعتبر نموذجا يحتدى به. وفي الوقت الذي كنا سنحتفظ بهذا الإرث المجيد أصبحنا مثل ذلك الغراب الذي حاول أن يقلد مشية الحمامة، فأصبحت عمارتنا الحالية بدون هوية وغير صالحة بتاتا لمواجهة تقلبات الطقس والكوارث الطبيعية مثل الزلازل، وحتى مواجهة الأشعة النافذة والموجات الصوتية. لهذا نلح على الرجوع إلى موروثنا المعماري الذي يعبر حقيقة عن هويتنا من جهة، ويتلاءم والظروف المحيطة بنا من جهة ثانية. وفي إطار ما نعيشه اليوم من عولمة متسلطة يصعب التمييز بين الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لكل شعب وأمة. ولكن رغم ذلك فالعمارة المغربية بصفة خاصة والعمارة الإسلامية بصفة عامة لازالت تحتفظ بأهم خصوصياتها الفنية والتقنية والمادية التي تميزها عن باقي العمارات الأخرى، بل إن الغرب يكدّ من أجل أخذ كل الجوانب الإيجابية لهذه العمارة واعتمادها في تشييد المدن والبنايات عنده، لتكون صرحا نموذجيا. بينما أصبحنا نأخذ عن الغرب كل القشور والمظاهر المشوهة لعمارتنا وحضارتنا.
3. يعكس توفر المغرب على رصيد وثائقي مهم من التراث المخطوط عمق الاهتمام لدى المغاربة عبر تاريخهم بالكتاب إنتاجا وصناعة ومعرفة، فما هي مميزات المخطوط المغربي عن غيره؟ وهل هناك إستراتيجية للحفاظ على هذا الموروث؟
يتوفر المغرب على رصيد وثائقي مهم من التراث المخطوط، يعكس عمق الاهتمام بالمقروء لدى المغاربة عبر تاريخهم إنتاجا وصناعة ومعرفة. ويتميز هذا التراث بغناه وتنوعه، سواء على المستوى المعرفي أو على المستوى الجمالي. بل ظل دوما ذاكرة المغرب بامتياز عند الخاصة والعامة على حد سواء. يتوزع الرصيد الوثائقي للتراث المخطوط بين مكتبات عامة وخاصة، منها: الخزانة الحسنية بالرباط، المكتبة الوطنية بالرباط كذلك، خزانة القرويين بفاس، خزانة ابن يوسف بمراكش، الخزانة العامة بتطوان، خزانة الجامع الكبير بمكناس، وهناك خزانات تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمكتبات التابعة لبعض الزوايا المنتشرة عبر أقاليم المغرب، إضافة إلى مكتبات خاصة في ملك أفراد وعائلات.
تعتبر المخطوطات من أهم مكونات الرصيد الوثائقي الوطني، ويتجاوز عددها حسب بعض التقديرات مائتي ألف مخطوط، وهنا نثمن المجهودات المبذولة في جمع المخطوطات وتصويرها ومعالجتها سواء من خلال المبادرات الخاصة أو جائزة الحسن الثاني للمخطوطات أو التعاون الدولي، وكل هذا من شأنه أن يقدم قيمة مضافة لتراثنا المخطوط من حيث المحافظة عليه من جهة، وتسهيل سبل الإطلاع عليه دراسته من جهة ثانية.
ويتميز المخطوط المغربي إلى جانب اعتماده على حوامل متنوعة كالرق والورق بأصنافه المختلفة والحرير… ثم التسفير المتميز بأشكاله البديعة والحبر الطبيعي، وتناوله كل الفنون، يتميز باستعمال خط متميز أُطلق عليه أول الأمر الخط المغربي الأندلسي تمييزا له عن الخط المشرقي، ثم ما لبث أن أصبح هذا الخط مغربيا صرفا تفاعلت فيه عناصر عربية وأمازيغية وإفريقية. لذلك يطلق مصطلح الخط المغربي أيضا على الخطوط التي نشأت بالمغرب الأقصى وحافظ عليها أهله، وتلك التي انحدرت من الأندلس مع الهجرات المتتالية للأندلسيين، فاحتضنها أهل المغرب وطوروها وتفننوا فيها على مدى قرون. ويتميز الخط المغربي بقيمة جمالية عالية، وبالانسجام والتناغم فضلا عن التجريد والغنى والتنوع ، والليونة والانسيابية ثم بالحرية التشكيلية. وهكذا تفنن الخطاطون والنساخ المغاربة في استعمال مجموعة متنوعة من الخطوط ابتداءً من الكوفي المغربي، ثم الثلث المغربي، فالمبسوط أو المستقيم والمجوهـر، ثم الزمامي أو المسند، ووصولا إلى الخط المدمج. والأكثر من ذلك أن كل مدينة وكل منطقة اختصت بنوع معين من الخط يميزها عن باقي المدن والمناطق، وهكذا نجد ما يطلق عليه بالخط الفاسي والخط السوسي والخط الدرعي والخط الصحراوي والخط الفيلالي… كما كان للخط المغربي إشعاع كبير واكب حيوية الثقافة المغربية وامتدادها سواء في اتجاه الجنوب نحو إفريقيا السوداء أو في امتداد الشرق نحو بلدان المغرب العربي الأخرى. فظهرت في تلك البلدان كلها أساليب خطية مشتقة من الخطوط المغربية وقريبة الشبه بها.
فيما يخص إستراتيجية المحافظة على التراث المخطوط، يمكن القول إن هناك مجهودات محمودة تبذل من طرف مجموعة من المؤسسات وإن بشكل انفرادي. وتبقى مجهودات المكتبة الوطنية هي الرائدة في هذا المجال سواء من خلال فهرسة ذخائرها المخطوطة، وقد توصلت إلى إصدار لحد الآن تسع فهارس، كما يمكن الحديث عن ما استرجعته وجمعته من مخطوطات بواسطة ما حصلت عليه من هبات مثل مجموعة أحمد بنسودة ومجموعة مولاي زيدان من دير الإيسكوريال، ومجموعة المهدي الوافي وغيرها. كما تعتبر المكتبة الوطنية رائدة في صيانة وترميم المخطوطات لما تتوفر عليه من مختبرات متخصصة في عمليات المعالجة والترميم والمحافظة وفي الرقمنة والاستنساخ وفي التسفير:
• مختبر الترميم: يتوفر على معدات حديثة، منها ما هو مرتبط بالتنظيف، وإزالة الأحماض، وإضافة الطلاء المقوي، والتنشيف والتسوية، وإصلاح التمزيقات، ورتق الخروم، وإعادة التركيب، وإزالة البلاستيك عن المخطوطات. ويكون الترميم إما يدويا أو ميكانيكيا.
• مختبر التصوير على الميكروفيلم: ويضم آلات لتصوير المخطوطات على الميكروفيلم سواء باللونين الأبيض والأسود “إيجابي أو سلبي” أو بالألوان، وقام المختبر بتصوير حوالي 7000 مخطوط فضلا عن تصوير مخطوطات خزانة القرويين، والخزانة الحسنية، وخزانة ابن يوسف بمراكش، وخزانة أبي سالم العياشي، ومخطوطات جائزة الحسن الثاني للمخطوطات.
• ورشة التسفير: وتتم عملية تسفير المخطوطات أو الكتب النادرة بالطريقتين اليدوية والآلية، لكن ما يميز هذه الورشة، كونها تشتغل بحرفية تقليدية نادرة، سواء بالنسبة للطريقة المغربية أو المشرقية أو الغربية في تجليد المخطوطات وترميم أغلفتها .
• مختبر رقمنة المخطوطات: ويرمي إلى توفير نسخة رقمية لكل المخطوطات للمحافظة عليها من جهة، ومن جهة ثانية إلى مواكبة التطور السريع للمعلوميات، وإلى خلق مكتبة رقمية متعددة الوسائط لخدمة القارئ عن بعد.
4. يتوفر المغرب على ثروة من المواقع الأثرية تتنوع بتنوع حضاراته، منها ما تم اكتشافه، ومنها ما هو قيد التنقيب، إلى أي حد ساهمت هذه الأبحاث في إماطة اللثام عن هذه الكنوز؟ وما هي المعوقات؟ والآفاق؟
إذا كان التاريخ يتناول بصفة عامة الوقائع الإنسانية في زمان محدد ومكان معين؛ فإن علم الآثار يرمي أساسا إلى إبراز حقيقة تلك الوقائع ميدانيا وكرنولوجيا وأيضا إلى تحديد المخلفات المادية مثل الدور السكينة والمساجد والمقابر والمعامل والطرق وغيرها. إن إزالة الغبار عن هذه المعطيات من شأنه أن يكشف لنا أهمية منطقة ما ليس فقط من ناحية تراثها العمراني بل وعن الدور الذي لعبته في المسار التاريخي العام. من جهة أخرى تستهدف الأركيولوجيا فضلا عن تحديد البقايا الأثرية والمعالم العمرانية، إثراء أو تصحيح مختلف المعلومات والإشارات التي أوردتها المصادر التاريخية المعاصرة وكذا الرواية الشفوية المحلية. ويساعد هذا كله على إعادة كتابة تاريخ المنطقة اعتمادا على أسس علمية دقيقة، وبالتالي المساهمة في وضع لبنة جديدة في صرح الكتابات التاريخية.
ويتميز التراث المغربي بالتنوع والغنى في مختلف تجلياته سواء منها السياسية أو الاقتصادية والاجتماعية أو الثقافية والدينية، مما جعل اهتمام الدارسين بهذا التراث يتوزع حول عدة تخصصات منها التاريخية والجغرافية بالدرجة الأولى، ثم السوسيو- أنثروبولوجية، فالأركيولوجية وأخيرا الاقتصادية والأدبية. إن النماذج الأصلية للتراث المغربي ظلت مرتبطة بالعواصم التاريخية مثل مراكش وفاس ومكناس والرباط وسلا… والتي تمثل طابعا فريدا لاعتبارات مختلفة، وهي تمثل كذلك مراكز حضرية لا زالت حية وتم دراستها من الناحية الأثرية بشكل منتظم. أما باقي المدن وخاصة المندثرة منها كسجلماسة، فلا تقل أهمية فهي تعتبر مختبرا مهما لتحليل نموذج المدينة التي تحتفظ بمعظم أسرارها مدفونة تحت ركام الأنقاض ولا يعرف منها إلا اليسير. وهذا التراث يمكن تصنيفه وفق الفترات التاريخية ووفق المكتشفات الأثرية الراهنة إلى ما يلي:
أ) مواقع فترة ما قبل التاريخ: ويمثلها بصفة خاصة: موقع مقالع طوما الذي يقع جنوب غرب الدار البيضاء على بعد حوالي 8 كلم. ترجع بقايا هذا الموقع إلى حوالي 400.000 قبل الآن، وقد أثبتت أعمال التنقيب بموقع طوما1 في عام 1986 إلى أن مجموعة من الأدوات تعود إلى العهد الآشولي القديم وترجع إلى حوالي 700.000 سنة. ثم موقع سيدي عبد الرحمن الذي يقع جنوب مدينة الدار البيضاء وقد ابتدأت الحفريات بهذا الموقع منذ سنة 1941 ثم سنة 1955 وتعود مكتشفاتها إلى حوالي 200.000 سنة. ثم موقع جبل إيغود قرب آسفي ويعود تاريخ الموقع إلى ما بين 90.000 و 190.000 سنة.
ب) مواقع فترة ما قبل الإسلام: ويمثلها بامتياز موقع وليلي الذي يقع على بعد ثلاث كيلومترات غرب مدينة مولاي إدريس زرهون. وكشفت الحفريات عن بنايات ضخمة ولقى أثرية مختلفة كالأواني الفخارية والأمفورات والنقود ومجموعة مهمة من المنحوتات الرخامية والبرونزية، تشكل جزءا مهما من معروضات المتحف الأثري بالرباط .يضم موقع وليلي عدة بنايات عمومية شيدت في أغلبها من المواد المستخرجة من محاجر جبل زرهون، نذكر منها معبد الكابتول (سنة217 م ) وقوس النصر والمحكمة والساحة العمومية. كما تضم المدينة عدة أحياء سكنية تتميز بمنازلها الواسعة المزينة بلوحات الفسيفساء، نخص بالذكر منها الحي الشمالي الشرقي (منزل فينوس، منزل أعمال هرقل، قصر كورديان…) والحي الجنوبي (منزل أورفي). كما أبانت الحفريات الأثرية على آثار معاصر للزيتون ومطاحن للحبوب، وبقايا سور دفاعي شيد في عهد الإمبراطور مارك أوريل (168 –169 م)، يمتد على مسافة تناهز 2.35 كلم، تتخلله ثمانية أبواب وعدة أبراج للمراقبة.
يكتسي هذا الموقع طابعا خاصا سواء من حيث أهميته التاريخية والأركيولوجية أو السياحية، إذ يمثل أحد أهم المواقع الأثرية بالمغرب وأكثرها إقبالا من طرف الزوار . لذلك حظيت وليلي بتسجيلها ضمن لائحة التراث العالمي في سنة 1997 م.
ج) مواقع إسلامية: ومن أهمها على سبيل الذكر على الحصر موقع تينمل الذي يقع على بعد 100 كلم جنوب شرق مدينة مراكش، على الطريق المؤدية إلى تارودانت عبر ممر تيزي نتاست. وتنتشر أطلالها على الضفة اليسرى لواد نفيس وسط جبال الأطلس الكبير على علو يناهز 1230م. وكانت تينمل مهد انطلاق الحركة الموحدية بزعامة المهدي بن تومرت سنة 1121م، وفي سنة 1153م تم بناء مسجد تينمل، وتحول الموقع على إثر ذلك إلى مقبرة ملكية للخلفاء الموحدين. وبني المسجد بتصميم ذي شكل مستطيل على مساحة طولها 48,10 مترا وعرضها 43,60 مترا وهو محاط بسور مرتفع تعلوه شرفات. تتكون قاعة الصلاة من تسع أروقة موجهة نحو القبلة، كما يشكل التقاء البلاط المحوري والرواق الموازي لجدار القبلة شكلا هندسيا على نحو الحرف اللاتيني T أما القباب الثلاث فتتوزع بشكل منتظم على طول رواق القبلة، إلا أنه لم يتبق منها إلا واحدة في الزاوية الجنوبية الغربية. ترتكز أروقة المسجد على دعامات مبنية من الآجر بواسطة أقواس متنوعة الأشكال، تساهم في إعطاء جمالية خاصة لقاعة الصلاة، وتعلو المنبر والمحراب صومعة مستطيلة الشكل، وهو ما يعتبر استثناء في هندسة الجوامع بالمغرب. أما الصحن فيمتد شمال غرب قاعة الصلاة وهو محاط بأروقة. من حيث الزخرفة يشكل محراب تينمل إحدى روائع الفن الإسلامي بالمغرب.
وفي سبيل المحافظة على التراث وتأهيله، فيجب على الجميع تحمل المسؤولية بما في ذلك الوزارة الوصية والجماعات المحلية والمؤسسات الخاصة والعمومية وشبه العمومية المهتمة بهذا التراث فضلا عن جمعيات المجتمع المدني وكل الغيورين. ويمكن باعتماد كل الوسائل بما فيها:
• التعريف بالمعالم الأثرية والتاريخية بواسطة المنشورات والمعارض.
• صيانة وإنقاذ التراث المعماري الوطني؛
• إثراء التراث المتحفي وتوفير كل شروط الحماية والمحافظة؛
تطبيق النصوص القانونية المتعلقة بحماية التراث وخاصة من التهريب؛
• تنمية البحث الأثري حول هذا التراث الثقافي والتعريف به عبر الندوات والإصدارات؛
• إعداد دليل حول الآثار عن طرق جمع المعطيات، ورصد الآثار، ودراسة المعالم الأثرية وتصنيفها واستثمار الدليل للتحسيس والتوعية بأهمية هذا التراث عن طريق المجلة الحائطية والمكتبة المدرسية.
عموما لقد حقق البحث الأثري ببلادنا رغم قصر مدة نشأته، تراكما لا بأس به على مستوى البحوث والدراسات الأركيولوجية والأنتروبولجية والإثنوغرافية، لكن الملاحظ هو كون أغلب هذه الدراسات لم تنشر كليا وبقيت عبارة عن تقارير ميدانية أكثر منها دراسات تحليلية ذلك أن نشر النتائج الأثرية يتطلب وقتا طويلا بسبب ضعف الإمكانيات مما جعل برامج العمل مرتبطة ببعثات أجنبية بشكل كبير إضافة إلى أن النشرة الآثارية المغربية التي ظهرت سنة 1957 وبالرغم من تخصصها لم يظهر منها سوى أعداد قليلة وهي غير منتظمة في الصدور. لم يعد الاهتمام منصبا فقط على المدن الكبرى التي تعود مواقعها إلى فترات ما قبل التاريخ كالدار البيضاء وطنجة وتطوان، بل أصبح البحث في هذا المجال موزعا في مناطق أخرى كالريف الشرقي وأصبح المسح الأثري ضرورة في التنقيب والإنقاذ. لا يمكن دراسة أي موقع دون دراسة المجال الجغرافي، استغلال الموارد الطبيعية ودراسة تعاقب الاستيطان البشري.
5. ما هي آخر أعمالكم العلمية المطبوع منها والمخطوط؟
أعمالي العلمية متواصلة بدون انقطاع والحمد لله بالرغم من الانشغالات الإدارية كرئيس قطب تدبير المجموعات وخدمة العموم بالمكتبة الوطنية، وهكذا بلغت مشاركاتي العلمية في ندوات وطنية ودولية ما يناهز الخمسين طبع منها حوالي ثلاثين وبخمس لغات: العربية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية والرومانية، ويبقى أهم عمل مطبوع أفتخر به هو أطروحتي حول عمران سجلماسة، والذي تفضلت وزارة الأوقاف مشكورة بطبعه في جزأين عام 2008 وهو العمل الذي تجاوز انتشاره الوطن ليصل إلى عدة دول بفضل ما تقوم به وزارة الأوقاف من مجهودات جمة في نشر الثقافة المغربية، كما قمت شخصيا بتوزيع بعض النسخ على مؤسسات أجنبية من أهمها عندي: مكتبتي الحرمين الشريفين بمكة المكرمة، والمدينة المنورة.
العمل متواصل كما قلت وعندي مساهمات علمية دولية تناهز الخمسة كل سنة، وهي تطبع بانتظام في مجلات محكمة، وكتب رصينة.. كما أعتزم أن أجمع كل المقالات الصادرة وغير المنشورة بين دفتي كتاب واحد، أو في موقع إلكتروني.. ولما لا كلاهما معا باعتبار القيمة العلمية لهذه المقالات، وتنوع موضوعها بين التاريخ والآثار والعمارة والمخطوط… ولتسهيل الباحث والقارئ على الوصول إلى المعلومة بيسر وسهولة.
ذة. عزيزة بزامي
-
جزاكم الله خيرا اريد من حضراتكم كتب او مواقع كتب عن العمارة والصناعات بالمغرب في العصر المريني
التعليقات