الدعاء والمكر والبغي
قال عز و جل: “هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن اَنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين” [يونس، 22].
سيقت الآية في مقام إبراز جحود المشركين بالله تعالى وبنعمه. فعوض الاعتراف بها يقفزون إلى المكر في آياته لقوله تعالى: “وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في ءَاياتنا قل الله أسرع مكرا اِن رسلنا يكتبون ما يمكرون” [يونس، 21]. وعوض شكر الله تعالى والثناء على ما أنعم به من نجاة ووقاية يسارع هؤلاء إلى البغي في الأرض لقوله تعالى: “فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الاَرض بغير الحق” [يونس، 23].
لقد أنعم الله تعالى على الناس فيسر لهم من خلال ما سخره لهم من إمكانات جسدية وعقلية وروحية مختلفة سبل السير في الأرض، بحرها وبرها وجوها. وفي طليعة مظاهر التيسير الإلهي ما يسر من نعم السير في البر والبحر لقوله تعالى: “هو الذي يسيركم في البر والبحر” [يونس، 22]. وهكذا يفرح ركاب البحار برياحها الطيبة ويتنعمون بها، أما إذا أعقبتها الرياح العاصفة فإنهم سرعان ما يجأرون بالتضرع لله تعالى.
والحق أن هذا النوع من البشر يعيش تناقضا مستمرا بين جانبين: يتمثل الجانب الأول في ما يصيبهم من ضراء، كما في الخشية من الغرق في البحار، فيتضرعون إلى الله تعالى بالدعاء، ويخلصون له في ذلك إخلاصا شديدا، بل يعدون الله تعالى بأن يكونوا شاكرين له بعد أن ينجيهم من الهلاك وبعد أن يكشف ما بهم من ضر. ويكفرون من خلال الجانب الثاني بنعم الله تعالى بعد الفرج، بل يمكرون في آيات الله و يبغون في الأرض بغير الحق.
لقد حصل هذا التناقض في الماضي: حصل على سبيل المثال لقوم فرعون مع موسى عليه السلام. فلما أخذوا بالعذاب استغاثوا بالله ووعدوه سبحانه بالعدول عن انحرافاتهم. لكن لما فرج الله كربهم مكروا ولم يقدروا آيات الله تقديرا سليما. وحصل هذا أيضا لقريش مع خاتم الأنبياء والمرسلين محمد عليه الصلاة والسلام. فلما أجدبت قريش وخافت الهلاك، تضرع أهلها لله تعالى، فلما رحمها الله بنعمة الغيث والماء مكرت مرة أخرى في آيات الله. وإن هذا التناقض حاصل في الحاضر، ويمكن أن يحصل في المستقبل إذا اتسعت شقة التناقض بين هذين الجانبين في الحياة الإنسانية ولم يعصمها الإيمان الراسخ بالله تعالى والتقدير السليم لنعمه.
أرسل تعليق