الخطاب الشرعي والقواعد النسقية للتأويل.. (21)
وحاصل ما استدل به مجيزو تخصيص عموم الكتاب بالقياس أن العموم والقياس دليلان متكافئان من حيث الظنية[1]؛ أما القياس فهو ظني الدلالة باتفاق، وأما العام فهو ظني الدلالة أيضا عند الجمهور، وحيث ثبت التكافؤ تعين إعمالهما بحمل أحدهما على الآخر، يقول القرافي مقررا هذا الدليل: “إن العموم والقياس دليلان متعارضان، والقياس خاص فوجب تقديمه، أما أنهما دليلان فبالاتفاق بيننا وبين الخصوم، وأما أنه يجب تقديم الخاص منهما، فلأنهما إما أن يعمل بهما أو يلغيان أو يقدم العام على الخاص، وهذه الأقسام الثلاثة باطلة فتعين الرابع وهو تقديم الخاص على العام، وهو المطلوب“[2]. ثم إن علة القياس هي في معنى النطق “فإذا كان النطق الخاص يخص به فكذلك العلة التي هي معناه“[3].
وأما المانعون فعمدة مذهبهم[4] ما يلي:
– أن القياس فرع النصوص والعمومات “لأنه لابد للقياس من أصل ينتزع منه معناه ويرد إليه، فلو جوزنا تخصيص العموم به لاعترضنا بالفرع على أصـله“[5].
– أن مقتضى حديث معاذ هو عدم جواز الاجتهاد إلا عند فقد الحكم في الكتاب والسنة، وما هو مندرج في العموم فحكمه موجود في الكتاب والسنة، فيلزم منع التخصيص بالقياس؛
– أن العلماء أجمعوا على “أن من شرط القياس أن لا يرده النص، وإذا كان العموم مخالفا له فقد رده“[6]؛
– أن النسخ بالقياس ممتنع فيتعين منع تخصيص العموم به؛
والجواب عن الأول: “أن القياس فرع نص آخر لا فرع النص المخصوص به والنص تارة يخصص بنص آخر وتارة بمعقول نص آخر، ولا معنى للقياس إلا معقول النص، وهو الذي يفهم المراد من النص، والله هو الواضع لإضافة الحكم إلى معنى النص، إلا أنه مظنون نص، كما أن العموم وتناوله للمسمى الخاص مظنون نص آخر، فهما ظنان في نصين مختلفين، وإذا خصصنا بقياس الأرز على البر عموم قوله “وأحل الله البيع وحرم الربا” لم نخصص الأصل بفرعه، فإن الأرز فرع حديث البر لا فرع آية إحلال البيع”[7].
والجواب عن الثاني: أن هذا الاستدلال يرد عليه عدم جواز الحكم بالسنة مع وجود عموم الكتاب، ولما كان من الجائز أن تبين السنة القرآن مع أنها متأخرة عنه في الرتبة، فإنه يجوز أن يبين الكتاب بالمعقول باعتباره لازما للنص كتابا او سنة وهو القياس، كما “أن ما يخرجه القياس من اللفظ العام ليس من كتاب الله، كما أن ما تخرجه السنة الخاصة من عموم ليس من كتاب الله“[8].
– والجواب عن الثالث أن المجمع عليه هو أن القياس لا ينسخ التواتر، “أما رده لأخبار الآحاد (…) ففيه خلاف عند الحنفية والمالكية وغيرهم من الفقهاء“[9]، فالإجماع المدعى في هذا الموطن مردود.
– والجواب عن الرابع “ما تقدم من الفرق بين النسخ والتخصيص من جهة أن النسخ إبطال للحكم من محل اتفقنا على أن الحكم ثابت فيه، أو عدم ثبوت الحكم فيه، ورفع الشيء بعد دلالة الدليل على ثبوت الحكم فيه يقتضي الاحتياط فيه أكثر من بيان أن الحكم ليس ثابتا فيه البتة لسلامة المخرج حينئذ عن المعارض المقتضي لثبوت الحكم في الصورة المخرجة”[10].
يتبع في العدد المقبل…
————————————–
1. العام وتخصيصه في الاصطلاح الأصولي، إدريس حمادي، ص: 181.
2. العقد المنظوم، 2/417.
3. إحكام الفصول، الباجي، ص: 172.
4. العقد المنظوم، القرافي، 2/417-418.
5. إحكام الفصول، ص: 172.
6. العقد المنظوم، 2/418.
7. المستصفى، الغزالي، ص: 250.
8. إحكام الفصول، الباجي، ص: 174.
9. العقد المنظوم، 2/418.
10. العقد المنظوم، 2/419.
أرسل تعليق