الحق ليس محجوب، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه
إذ لو حجبه شيء لستره، ما حجبه، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر.. وهو القاهر فوق عباده.
قول الشيخ بن عطاء الله رضي الله عنه في هذه الحكمة المباركة “الحق ليس محجوب” مفاده أن الله جل جلاله نور السموات والأرض ولا يمكن أن يحجب، قال تعالى: “الله نور السموات والاَرض” [سورة النور، جزء من الآية: 35] وإنما الذي يحجب هو الإنسان عن تلقي أنواره السبحانية، وهو قول الله عز وجل: “إن الذين كفروا سواء عليهم ءانذرتهم أم لم تنذرهم لا يومنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة” [سورة البقرة، الآيتان: 6- وجزء من 7].
وقد ورد الحجب الذي يُحجبه الإنسان عن إدراك أنوار الحق تعالى، في القرآن المجيد وفي السنة النبوية المطهّرة بصور متعددة تفيد جميعها هذا المعنى الذي هدى إليه الشيخ بن عطاء الله رضي الله عنه في هذه الحكمة استمدادا من أنوار الوحي.
فالحجب يعبر عنه تارة بالصدف “الذين يصدفون عن آياتنا” [سورة الاَنعام، جزء من الآية: 157]؛ أي أن قلوب المحجوبين تحجز عن إدراك الحق كما لو كانت مكنونة في صدفة، لا ينفذ إليها من الهداية شيء، وتارة بالكفر “إن الذين كفروا سواء عليهم ءآنذرتهم أم لم تنذرهم لا يومنون” [سورة البقرة، الآية: 6]، والكفر الستر والتغطية، أي أن المحجوبين يسترون وسائل إدراكهم، وعقولهم، وأسماعهم، وأبصارهم، بحيث لا ينفذ إلى ذلك كله من الحق شيء، وتارة بالتغليف، “وقالوا قلوبنا غلف، بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يومنون” [سورة البقرة، الآية: 88]. وتارة بالعشى “ومن يعش عن ذكر الرحمن” [سورة الزخرف، جزء من الآية: 36]، وأخرى بالعمى “أفأنت تسمع الصم أم تهدي العمى” [سورة الزخرف، جزء من الآية: 40]، وأحيانا بالوقر “وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه وفي آذاننا وقر” [سورة فصلت، الآية: 5]، وأحيانا أخرى باستغشاء الثياب “جعلوا أصابعهم في ءاذانهم واستغشوا ثيابهم” [سورة نوح، جزء من الآية: 7]، وفي مواقع يتم التصوير لهذه الحالة من الحجب بالصدّ “فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه” [سورة النساء، جزء من الآية: 55]، وفي أخرى تبرز العلة في كون المحجوبين لا يستخدمون وسائل إدراكهم لما خلقت لأجله “ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم ءاذان لا يسمعون، بها أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون” [سورة الاَعراف، الآية: 179].
وفي السنة النبوية المطهرة تصوير بديع للقلب المحجوب الذي لا تدخله الهداية كما لو كان عبارة عن كأس مقلوب لا يمكن أن يدخله سائل، قال عليه الصلاة والسلام: “تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أُشربها نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشْرِبَ من هواه”، [أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، رقم: 144].
كما نبه الشيخ بن عطاء الله رحمه الله في هذه الحكمة إلى عدم الإمكان النقلي أو العقلي لستر أنوار الحق سبحانه وتعالى، إذ الحق جل وعزّ هو القاهر فوق عباده، واستدل لهذه الاستحالة استدلالا في غاية القوة بقوله: “ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر.. وهو القاهر فوق عباده”، ويقصد الشيخ رحمه الله بقوله هذا، أن الستر للشيء استحواذ وسيطرة عليه، وقهر له، إذ كل ما سُتر قُهر، وهذا محال في حق الله سبحانه وتعالى “يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون” [سورة الصف، الآية:8].
وهذه الحكمة تهدي إلى المنهج القرآني في التبصرة، وهو منهج يوجه إلى وجوب الاجتهاد ابتداء لرفع الحُجُب عن الإنسان الذي ترام تبصرته، وهي حجب نفسية وعقلية وقلبية واجتماعية، فإن رفعت، ولو رفعا جزئيا، جازت إلى الإنسان أنوار الحق فاستنار.
والله المستعان.
الأمين العام
للرابطة المحمدية للعلماء
أرسل تعليق