الحركة العلمية في عصر المرينيين.. (13)
[الهيئة العلمية وآثارها]
17. ابن البناءِ العدَدي
أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي، العلامة الفلكي والحاسب المشهور، كان أبوه بناءً وطلب هو العلم فبلغ فيه الغاية القصوى، ولد بمراكش سنة 654 وطلب العلم بها ثم بفاس فأتقن العربية وآدابها، وحصل على علوم الشريعة وبرَع في العلوم الفلسفية ولا سيَّما الرياضيَّة، فكان لا يُدرك شأوه فيها ولا يبلغُ مداه وعلى الأخص الهيئة والعدد منها فإن إليه انتهى علمهما بالمغرب، وعنده اجتمع ما تفرق منهما بأيدي قدماء الرياضيِّين من إسلاميين وغيرهم، ولا يعرف فيمن أتى بعده من تحقق تحقُّقه بمعرفة أسرار الفلك وحركات النجوم، وبالعدد والضم، والتفريق فيه، وإنما غاية العلماء بعده في ذلك تفهُّم كتبه وتناوُلها بالشرح والتفسير، مثلما فعل أبنُ هَيْدُور وغيره؛ فإنه شرح تلخيص أبن البناء الحسابي ورفع الحجاب له أيضا.
وتلخيصُ ابن البناء هذا هو الذي قال عنه ابن خلدون أثناء الكلام على الحساب من العلوم العديدة “أنه ضابط لقوانين أعماله مفيد” ورفع الحجاب قال عنه: “هو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تُعظِّمه، وهو جدير بذلك” ولابن البناء كتب كثيرة نأتي على ذكرها بعد هذا، وكانت وفاته ببلده سنة 721.
18. ابن البقال
محمد بن محمد بن علي بن البقال أبو عبد الله العلامة الأصولي المعقولي الفيلسوف، من أهل تازة، عرف به بلديُّه الأستاذ أبو الحسن بن برِّي فقال: “كان من العلماء المحققين المحصِّلين المشاركين، أخذ أولا بتازة علم الفرائض، والعدد على أبي عبد الله العباس بن مهدي، والنحو والكلام على أبي عبد الله الترجالي، واستوطن فاساً، ودأب على القراءة، واستفرغ وُسعه على المعقول سنين عديدة، حتى حصَّل على التعاليم وأتقنها، ثم أخذ أخيرا في التفسير والفقه الخلافي، وكان له حظٌ وافر من اللغة والأدب والبيان والعروض والشعر والكتابة، وكان آخر عمره كثير التلاوة للقرآن محافظا على صلاة الجماعة، وله وردٌ من الليل وبالجملة ما رئي في وقته من حصَّل من علوم الفلاسفة مثل ما حصله مع الديانة والوقوف مع الشريعة. وأخذ في آخر عمره في تدريس الفقه فكان آيةً وتوفي بفاس سنة 725 ودُفن إثر صلاة الجمعة داخل باب الفُتوح وقد قارب الخمسين. قال في نيل الابتهاج: “وله أجوبةُ حسنة في التفسير والأصول أجاب بها أبا زيد بن العشَّاب”.
19. اللَّجائي
أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الربيع اللَّجائي الفاسي، العالم الرياضي الكبير. كان متحققا بأجزاء من علم الهندسة والهيئة والحساب. نشأ في حجر والده أبي الربيع، وكان من فقهاء فاس، وممن أخذ عن القرافي، وهو الذي أدخل مُختصر ابن الحاجب الفقهي إلى فاس، فكان يأخذه بطريقته من قراءة الفقه، ولكنه رأى ذاتَ يوم في النوم كأنه صعد إلى السماء، وأخذَ يُقلِّب نجومها واحدا بعد واحدٍ فقَصَّ رؤياه على أبيه، فقال له: “أقصِد أبن البناء وخُدْ عنه علومَهُ”، قال ابن قُنفُد: “كان اللجائي آية في فنونه، ومن بعض أعماله أنه اخترع أسْطُرلاباً ملصوقا في جدار، والماءُ يُدير شبكته على الصَّفيحة، فيأتي الناظر فينظر إلى ارتفاع الشمس كم هو، وكم مضى من النهار، وكذلك ينظر ارتفاع الكوكب بالليل، وهو من الأعمال الغريبة، وقد وقفتُ عليه زمانَ قراءتي بين يديه” وتوفي سنة 773م.
20. عائِشَةَ بنتُ الجيَّار
هي الطبيبةُ البارعة عائشةُ بنت الشيخ الكاتب الوجيه أبي عبد الله بن الجيَّار المحتسب بسبتة، قرأت الطب على صهرها الشيخ الشهير أبي عبد الله الشَّريسي ونبغت فيه. قال في بُلغة الأمنية: أدركتُها رحمة الله عليها، وقد بلغت من السن نحو سبعين سنةً، وكانت امرأةً عاقلة عاليةَ الهمة، نزيهة النفس، معروفة القدر لمكان بيتها. لها تقدُّم بالطبع وجزالةٌ في الكلام، عارفة بالطب والعقاقير، وما يرجع إلى ذلك، بصيرة بالماء وعلامته وتأثل لها بطريقتها صيتٌ شيَّدَهُ الأمراء، فطالما كانوا يجيزونها بالهدايا والتُّحف وغيرها، لأجل ما خبرُوه من حِرفَتها، وكانت لها رباعٌ تستَغلُّها، ولم تزل سيدة محفوظة المنصب إلى أن توفيت بعد أن عهدت بتوقيف رباعها في سبيل البرِّ وسُبل الخيرات رحمها الله ونفعها.
النبوغ المغربي في الأدب العربي تأليف عبد الله كنون، العدد 1-3 دار الثقافة، ج: الأول، ص: 213-215.
أرسل تعليق