الجمال في الإسلام بين الظاهر والباطن (2/2)
لقد حاول الكثير من الفلاسفة والمفكرين أن يعرف الجمال انطلاقا من قسماته وملامحه الحسية، ومعاييره المتواضع عليها، فهذا أبو حامد الغزالي يقسم الجمال إلى ظاهر وباطن، ويعتبر الظاهر من شأن الحواس، والباطن من شأن البصيرة فيقول في الإحياء: “الصورة ظاهرة وباطنة، والحسن والجمال يشملهما، وتدرك الصور الظاهرة بالبصر الظاهر، والصور الباطنة بالبصيرة الباطنة، فمن حرم البصيرة لا يدركها ولا يتذوقها ولا يحبها ولا يميل إليها… ومن كانت عنده البصيرة غالبة على الحواس الظاهرة كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني الظاهرة”.
ويعرف إخوان الصفا الجمال بأنه التناسق، تأثرا بنظرية التناسق في الكون عند الفيثاغوريين، ويعبر عنه أرسطو “بالانسجام” الحاصل في وحدة تجمع في داخلها التنوع والاختلاف في كل منسجم.
لكن مهما حاول الإنسان أن يضع للجمال حدا وتعريفا نهائيا فإنه لن يحقق ذلك لسببين اثنين: أولهما أن الجمال أجمل من أن يعرف؛ لأنه ليس قيمة ملموسة دائما قابلة للتقييم والتكميم، فهناك جمال الروح، وجمال الخلق…
وثانيهما أنه نسبي من حيث تباين إدراك الناس له، فما يراه البعض جميلا قد لا يراه الآخر كذلك..
وما أود الحديث عنه في هذه العجالة هو جمال الباطن الذي يغفل الكثيرعن مكانته الاعتبارية وأثره الفاعل في السلوك الإنساني كقيمة من القيم الثابتة في ثقافة أمتنا، وماثلة في تراثها وحضارتها، فما حقيقته إذن؟ وما علاقته بجمال الظاهر؟ وما هي وسائل تنميته والمحافظة عليه؟
جمال الباطن يشمل المعتقدات الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والطباع المهذبة، وبتعريف أشمل يتناول كل الاستعدادات الفطرية التي فطر الله الإنسان عليها ليؤدي الوظيفة التي خلق من أجلها على هذه الأرض وهي العبادة بمفهومها الشامل، وجمال الباطن محبوب لذاته، وهو المعتبر في تقييم عمل الإنسان، والمقدم في ميزان الشرع، إذ بصلاحه يصلح الظاهر، أخرج الإمام مسلم في صحيحه: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”[1].
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: “اللهم كما حسنت خلقي فحسن أخلاقي”…
إرشادا منه إلى العناية بالفطرة / جمال الباطن، وتأكيدا على أهميتها في تنمية السلوك الإنساني وترقيته.
وجمال الباطن له أثره الواضح على صورة الإنسان الظاهرة، فيضفي عليها حسنا وبهاء، وقبولا واستحسانا غريبا، وإن كانت تلك الصورة في حقيقتها صورة موحشة، فالمؤمن المهتم بتزكية نفسه، والعناية بمخبره قبل مظهره، يتصف بصورة مميزة، فكل من رآه هابه، ومن خالطه أحبه، وازداد به أنسا وقربا، يشهد لذلك الحديث الذي رواه جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن يألف ولا يؤلف”[2].
فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره، فتختفي معه ملامحه، ويحل محله البهاء والوضاءة.
ولما كان جمال الظاهر والباطن معظما في النفوس؛ فإن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا كان جميل الصورة، حسن الوجه، كريم الحسب، حسن الصوت، جميل الخلق، وكان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم نموذجا جامعا لمكارم الأخلاق بثناء الله عليه في قوله تعالى: “وإنك لعلى خلق عظيم” [سورة القلم، الآية: 4]، غير أن هذه الفطرة النقية تتأثر بمؤثرات المحيط إيجابا وسلبا، ومن ثم تتأكد الحاجة إلى الحرص على حماية تلك الفطرة من المؤثرات السلبية من خلال وسائل نذكر منها:
– التربية المنطلقة من أصولنا الثقافية، وفلسفتنا المنبثقة من تلك الأصول، والهادفة إلى غرس الفضائل الجامعة، وهذا معين على حماية الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛
– التعويد على العمل الصالح الذي يزكي النفوس، ويُنمي الإيمان، ويرقى بالسلوك؛
– التأسي بالرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه في أقواله وأفعاله، إذ كان من بين أهداف رسالته إصلاح الفطرة والحفاظ عليها نقية سليمة من المؤثرات السلبية الطارئة.
—————————-
1. صحيح مسلم عن أبي هريرة، رقم: 4651.
2. أخرجه الطبراني في الأوسط رقم: 5949.
أرسل تعليق