التربية على القيم وإشكالية انفصام الشخصية (1/5)
شكلت وتشكل العولمة في العقدين الأخيرين تحديا لأمتنا ذات الخصوصية الثقافية التي تعتبر أساس وجودها الحضاري، وسر سعادتها في الدنيا والآخرة، لكن هذا التحدي الخارجي قد يكون أهون أثرا من التحديات الداخلية (من داخل الأمة) التي تقف عائقا في وجه كل محاولة إصلاح وتقويم للسلوك، ألا وهي ظاهرة انفصام الشخصية[1]، ولتشخيص حقيقة الظاهرة، وبيان حجمها وآثرها، لا بد من طرح الأسئلة الآتية:
• هل نعاني نحن المسلمين – فعلا- من انفصام الشخصية؟
• وما مظاهر هذا الانفصام في واقع حياتنا؟
• وما أسباب تلك الظاهرة؟
• وكيف يمكن تجاوز الظاهرة؟
لا شك أن سلوكياتنا وتصرفاتنا في الواقع يعكس الهوة السحيقة بين القيم والمبادئ التي نتحدث بها نظريا ونتحمس للدفاع عنها أحيانا كثيرة، وبين السلوك العملي في حياتنا، إن الانفصام بين الأفكار والمبادئ وبين السلوك على أرض الواقع يكاد يكون ظاهرة في مختلف مجالات حياتنا اليومية، فالكلام عن قيم الأمانة والصدق والعدل… على المستوى النظري يغري السامع ويقع من نفسه وقلبه موقعا مؤثرا، لدرجة أنه قد يحقر نفسه أمام ذلك المتكلم الذي يحسن عرض المبادئ والقيم إحسانا، حتى إذا انتقل من الكلام النظري إلى التطبيق كشف سلوكه عن مفارقة عجيبة، وعن تعارض صارخ بين التنظير والممارسة..
ومن الأمثلة الشاهدة على هذا الانفصام والتي يزخر بها واقعنا في معظم مجالات الحياة:
– الطبيب الذي نصب نفسه أو نُصب لخدمة الإنسان ورعاية صحته بعد أداء اليمين الغليظ على أداء مهامه بصدق وأمانة ووفاء، بعيدا عن كل ابتزاز وعن كل خلق يخدش شرف هذه المهنة، لكن أصبحنا نقرأ ونسمع عن سلوكيات تدمي القلب لفظاعتها في حق الإنسانية، وهي تتنافى كلية مع أخلاق المهنة وقيم ومبادئ دينه التي تعلمها في المدرسة والجامعة وأكدها بقسمه وتعهده؟؟؟ نسمع كثيرا عن إجراء عمليات جراحية وهمية، وأحيانا بعد موت المريض، وبمبالغ مالية خيالية،… والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: ما ذا كان يتعلم هؤلاء على مقاعد كلية الطب؟؟؟
– ومن الأمثلة الأخرى وما أكثرها في واقعنا، مثال المهندس المعماري الذي يشيد العمارات والبنايات سرعان ما تنهار على رؤوس أصحابها، أو تتصدع من كل جانب بسبب الغش وعدم التقيد بمعايير البناء القانونية، بدافع الجشع والسعي وراء الأرباح المادية التي تضحي بالأرواح البريئة، وتتسبب في ضياع الأموال الطائلة؛
– والمثال الثالث من مهنة المحاماة وما أدراك ما المحاماة؟ ثمة قصص مروعة وروايات مزلزلة عن تلاعب بعض المحامين بقضايا الناس وملفاتهم، وسلوك مسالك اللف والدوران لاستنزاف الضحايا الذين ساقتهم إليهم المظالم للاستعانة بهم، ثقة بكفاءتهم المهنية، ومعرفتهم بالقانون، ورجاء عطفهم على المظلوم ، لكنهم يفاجأون بعكس توقعاتهم، بحيث يجدون أنفسهم تائهين في طريق لا نهاية لها، فأين المعارف التي تعلمها هؤلاء في مدرجات كليات الحقوق؟؟؟ إنها أمثلة كثيرة عن انفصام الشخصية في الحياة الواقعية، فما هي أسباب ذلك يا ترى؟
1. ضعف القيم في مناهجنا التربوية التي اعتمدت لعقود خلت، وهو اختلال واضح في التوازن بين تلقين المعارف وغرس القيم في منظومتنا التربوية في جميع الأسلاك، وفي الفلسفة التربوية المعتمدة، ما أدى إلى مخرجات مشوهة، لا تعكس الرؤية التربوية السليمة، وتكشف عن خلل واضح وانفصام صارخ بين التربية التي تستهدف ترقية السلوك الإنساني، والتعليم الذي يستهدف تلقين المعارف الوظيفة التي تؤهل لشغل وظيفة ما، أو شغل مهنة ما، اعتقادا من أصحاب هذا الطرح أن الهدف من المدرسة والجامعة هو تقديم المعارف والمعلومات للتلميذ والطالب فحسب، كما يعتقدون –مخطئين- أن تعليم القيم المختلفة هي من مهمة مؤسسات اجتماعية أخرى كالأسرة ودور العبادة… وهو ما حدا بالمشرفين على الإصلاحات التربوية مع بداية العقد الأخير إلى تبني “القيم” كمدخل أساس للإصلاح؛
2. السبب الثاني متصل بالأول وهو تركيز المدرسة على تعليم المعارف، وإهمال القيم والتربية على القيم التي تستهدف جميع جوانب شخصية الإنسان، دون طغيان جانب على آخر، وهي النظرية التربوية التي يمكن وصفها بالشمولية والمتوازنة والواقعية، أي أنها شاملة لجميع مكونات الإنسان، وموازنة بين هذه المكونات، وواقعية بحيث تستجيب لحاجات الإنسان السوي المستخلف لعمارة الأرض بما ينفع الناس في الدنيا والآخرة على السواء. ولما تخلت المدرسة والجامعة، بقصد أو بغير قصد، عن هذه الفلسفة التربوية الشاملة والمتوازنة، واقتصرت على تلقين المعارف كان المنتوج كما نرى، حتى ضاقت الأرض بمخرجاتها ذرعا؛ لأنها لا تؤدي وظيفتها على أرض الواقع، وفي جميع ميادين الحياة الإنسانية، بكيفية تسعد بها الإنسانية ولا تشقى.
وحتى نتجاوز هذه السلوكيات المشينة، والتناقضات الصارخة بين ما نردده بألسنتنا وبين سلوكنا وأفعالنا، لا بد من إجراءات أساسية وعملية منها:
– إن الخطوة الأولى في طريق تصحيح المسار ينبغي أن تنطلق من إعادة النظر في منظومتنا التربوية؛ وذلك باعتماد فلسفة تربوية شاملة، تعنى بجميع مكونات الإنسان عقلا وجسما وروحا، وبناء مناهج تربوية متوازنة تجسد تلك الفلسفة في أبنائنا، وتحقق فيهم المواصفات التي تحفظ شخصيتهم وتثبت أركان هويتهم.
– أما الخطوة الثانية والأساس ،فهي الوعي بأهمية قيمنا، وتمثلها في جميع تصرفاتنا وسلوكياتنا كما كان يفعل أسلافنا الذين سجل لهم التاريخ مواقف مشرقة في حياتهم، لا لشيء إلا أنهم كانوا يصدرون- في ممارساتهم وأعمالهم -عن قيمهم التي تمثل دينهم، وحتى لا يبقى هذا الكلام محصورا في دائرة الادعاء يحتاج إلى دليل، أسوق الأمثلة الآتية:
1. رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاتل أخيه “زيد بن الخطاب” الذي استشهد في معركة اليمامة، فقال له عمر: إني أكرهك، قال له الرجل: يا أمير المؤمنين، وهل كرهك لي يمنع عدلك عني؟ قال عمر: لا، قال: فإن الحب للنساء.
2. جاء في صحيح مسلم: قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: “ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي، فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا العهد علينا لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم”[2] إنها قمة سامقة في الأخلاق الإسلامية، صحابي يشهد بدرا ولا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاء للعهد مع الكفار!
3. وقد بلغ الحس المرهف عند المسلمين الأوائل أن علماء الحديث لم يقبلوا رواية من كذب على دابته مخافة أن يكذب على الناس!
هذه العناية من الأمة الإسلامية بالأصل الأخلاقي وبالقيم المثلى، هي التي حفظت على الثقافة الإسلامية تماسكها مدة أربعة عشر قرنا مع ما انتابها من الصدمات الحضارية، والهزات القاصمة، والضعف المميت، فهلا استنهضنا هممنا وتمسكنا بقيمنا لننهض من كبوتنا ونسترجع شخصيتنا الحضارية ومجدنا التليد؟
( يتبع )
——————
1. يعني أن الشخص الموصوف بهذا الوصف له شخصيتان، أو أسلوبان متناقضان.
2. صحيح مسلم باب الوفاء بالعهد، ج 9، ص 264، رقم الحديث:3342.
-
إن في اختيار المواضيع دلالات وعبر يفهمها اللبيب قبل الغوص من أجل إدراك التفاصيل. والموضوع بحمد الله وتوفيقه يسير في الاتجاه الصحيح حيث يعالج قضية تقض مضجع العديد من الباحثين والدارسين، واختياره في هذا الوقت بالذات وعي من كاتبه بعمق التحديات التي تواجه الأمة المغربية.
إن الاهتمام بمنظومة القيم وفلسفتها ومدى تأثيرها على بناء الشخصية يفرض التمعن في مكونات الشخصية وأثر المحيط عليها وفيها، والمغرب من البلدان التي عرفت هزات بفعل الدخيل وقوته وواجهته بكل ما استطاعت بل طردته، لكنها أخفقت نسبيا في بداية استقلالها من المحافظة على هويتها وقيمها الراسخة والثابتة، ولم يواكب هذا الخروج والتحولات تحصين الذات من معاول الهدم.
وأقترح على فضيلة أستاذنا الغالي أن يضيف سببا آخر من أسباب انفصام الشخصية تأثير وسائل الإعلام على بناء الشخصية المغربية.
ولنا عودة لإثراء النقاش عند اكتمال الحلقات… -
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا جزيلا للأستاذ الأعز والأغر رشيد -الباحث في الميدان التربوي – أشكره أولا، على عودته لتتبعه للمقالات التي تنشر على صفحات هذه الجريدة الإلكترونية الغراء، واستئنافه للقراءة الواعية العلمية لتلك المقالات، وأشكره ثانيا، على دقة ملاحظاته المعبرة عن قراءته المتبصرة لما يكتب وينشر مما له علاقة بالتربية وعلومها، فمرحبا بك قارئا بصيرا، وناقدا حكيما .
أما ملاحظتك الجوهرية حول حصر أسباب انفصام الشخصية الملحوظ – في واقع الحياة من حولنا – في المدرسة، فلا أختلف معك فيها من وجه واحد هو كالآتي:
• إن المؤسسات التي تقوم بالدور التربوي، والمنتجة للقيم، متعددة -فعلا-كما نعلم جميعا، منها الأسرة، ومؤسسات المجتمع من: المسجد والنادي وغيرهما ثم المدرسة، لكن الاقتصار على المدرسة كسبب رئيس وليس سببا واحدا ووحيدا، إنما من منطلق أن جميع هذه المؤسسات لا تقوى على التأثير بنفس الدرجة التي للمدرسة، وذلك بالنظر إلى :
1. الأساليب العلمية والمنهجية التي يفترض أن تتسلح بها المدرسة، خلافا للأسرة وكذا القبيلة خاصة في مجتمعاتنا، باستثناء المؤسسة الإعلامية التي تحشد كل الإمكانيات المادية والفنية لتقنع برسائلها كل قارئ ومستمع بسيط ليست لديه الحصانة الفكرية، والقدرة على تحليل تلك الرسائل وتشفيرها.
2. إن جميع مكونات المجتمع وفي كل المواقع -في النهاية – تعتبر من إعداد المدرسة -في الغالب الأعم – تكوينا وتربية، فهي الرائد الأقوى؛
3. ثم لا بد من توجيه النقد أولا إلى المدرسة بهدف استنهاض الهمم لتدارك وإصلاح أخطاء الماضي، إذ بنظرة عابرة من المتتبع للواقع يخلص إلى نتيجة يمكن صياغتها في سؤال: كيف ساغ للمدرسة أن تجزئ وظيفتها إلى وظيفتين؟ وتفصل بين تلقين المعارف والقيم؟ بل وتقتصر على إحداهما دون الأخرى؟
4. إن سياق الحديث بدأ حول القيم، وأنا أرى أن الفضاء الرحب، والقناة الفاعلة بما تملك من مناهج وطرق وأساليب تربوية، وكفاءات مدربة هي المدرسة، القلب النابض للأمة بشرط التأهيل على أكثر من صعيد، وبمواصفات تستجيب لمقومات شخصيتنا وروح العصر معا.
وأما إرجاع سبب ظاهرة انفصام الشخصية إلى سبب واحد ألا وهو "القهر" كما يرى ذلك بعض الباحثين في علم النفس الاجتماعي، فأمر نسبي، وقد يعتبر آخرون "الحرية" المبالغ فيها، بحيث أصبح الناس يفعلون ما يشاءون بدعوى الحرية الشخصية ولو تعارض ذلك مع ثوابت الأمة وقيمها .
وخلاصة الكلام أن تخصيص المدرسة بالذكر سببا في… لا يعني نفيا لتأثير باقي المؤسسات الأخرى، لكن فقط للتغليب، وسيتأكد ذلك من خلال المقالات المقبلة بحول الله ومشيئته، ومرة أخرى أرحب بالسيد رشيد وبتعليقاته التي تفتح آفاقا لتطارح الأفكار خاصة في هذا المجال التربوي الذي يحتاج إلى تضافر الجهود للكشف عن المخبوء والمستور بهدف البناء لا الهدم، والله ولي التوفيق. -
بسم الله الرحمن الرحيم
بداية نقدر للأستاذ الفاضل مجهوداته وندعو البارئ أن يحفظه ويسدد خطاه.
لقد جاء المقال تشخيصا للحالة النفسية للمسلم من منظور علم النفس الاجتماعي وكعادته فقد كان موفقا في التأصيل لأفكاره باعتماد رؤية منطلقة من المرجعية الإسلامية.
ففعلا أصبحنا نعيش تناقضا قيميا ومسافة فلكية بين قيم الإسلام وواقع المسلم وسلوكه والأمثلة التي قدمها الأستاذ تشهد على ما يعيشه المسلم من انفصام خطير للشخصية بين ما يجب أن يكون وما هو كائن.
إلا أن الأستاذ الفاضل وإن كان مصيبا في تشخيصه للداء؛ فان تحديده لأسبابه لم يكن بنفس الدقة؛ لأن اتهام مؤسسة المدرسة بكامل المسؤولية في التراجع القيمي في المجتمع أمر لا يمكن إلا التحفظ بشأنه؛ لأننا نعيش في مجتمعات تعتبر فيها المدرسة مؤسسة تابعة منفعلة متأثرة لا تنتج قيم المجتمع بقدر ما تخضع لما هو سائد خارج أسوارها. فالمجتمع الإسلامي لا زال يخضع لتأثير مؤسسات تقليدية أصيلة منتجة للقيم (القبيلة، الأسرة، المسجد، الزاوية، المؤسسات الإنتاجية العتيقة…) مع خضوعه في الوقت نفسه لهجوم شرس للمؤسسات التي تدور في فلك العولمة خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد والإعلام مع انحسار كبير لدور مؤسسة المدرسة.
وبالرجوع إلى الكتابات التي تحدثت عن هذا الموضوع من منظور علم النفس الاجتماعي هشام شرابي ومصطفى حجازي نموذجا: فقد ارجعا انفصام الشخصية هذا إلى علاقة القهر التي يعاني منها الإنسان المقهور داخل المجتمع والتي تجعله كائنا ميكيافيليا الغاية عنده تبرر الوسيلة…
التعليقات