التراث المخطوط بالخزائن العلمية بمنطقة سوس
-الواقع والتحديات والآفاق-
مقاربة إحصائية توثيقية
مدخل تاريخي
تعد منطقة سوس من بين المناطق المغربية التي شهدت انبثق حركة تثقيفية وتعليمية مبكرة، وحسب العلامة محمد المختار السوسي؛ فإن القرن الخامس الهجري يعد مرحلة أساسية في تشكل الإرهاصات الأولى لهذه الحركة العلمية، وخاصة وأن هذه الفترة شهدت توافد ثلة من علماء الأندلس إلى المنطقة[1].
كما كان لبعض المؤسسات الدينية -وخاصة المساجد والرباطات- الدور الريادي في ترسيخ بعض التقاليد العلمية بالمنطقة، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: “رباط أكلو” الذي ورد ذكره في العديد من المصادر التاريخية، “كترتيب المدارك” للقاضي عياض؛ أثناء ترجمته لعبد الله بن ياسين الجزولي يقول: “كان -أولا- من طلبة واكاك بن زولو اللمطي، في داره التي بناها بالسوس للعلم والخير، وسماها دار المرابطين”[2]، وكذلك ورد ذكره أيضا عند ابن الزيات في معرض حديثه عن وكاك بن زولو اللمطي قائلا: “فبنى دارا سماها “دار المرابطين” لطلبة العلم وقراءة القرآن”[3]، وتذكر المصادر أيضا رباطا آخر أسسه المهدي ابن تومرت عام 515 هـ لتعليم أهل “هراغة” “أُرغن” مبادئ الدين الإسلامي، وهو المشهور “بدار المرابطين”. وشهدت المنطقة في هذه الفترة انتشارا واسعا للعديد من المدارس العلمية العتيقة والتي أسهمت في ازدهار حركة التأليف في العلوم الشرعية بالمنطقة، ليتواصل العطاء العلمي بعد ذلك فيشمل مختلف المعارف والفنون، وقد وكب هذه الحركة العلمية انتعاش بعض الحرف المرتبطة بالكتاب كالنساخة والتسفير والتجليد، ويذكر صاحب الرحلة العياشية ما كان لمحمد بن سليمان الروداني من بديع الصنعة في تسفير الكتب يقول العياشي: “وكانت له صنائع يحسن غالب الحرف المهمة، سيما الرقيقة العمل، الرائقة الصنع كالطرز العجيب والصياغة المتقنة وتسفير الكتب…”[4]. ويحتفظ التاريخ بأسماء عالمات مثقفات أنجبتهن أرض سوس أسهمن في ازدهار حركة التأليف بالمنطقة، ذكر العلامة محمد المنوني أسماء ثلاث عالمات اشتهرن بالتأليف[5]؛ السيدة رحمة بنت الإمام محمد بن سعيد السوسي المرغيتي التي ألفت برسمها مختصر فقهيا مبسطا. والسيدة فاطمة بنت محمد الهلالية المتوفاة عام 1207هـ. والسيدة عائشة بنت الحاج مبارك الشلح بن أحمد بن الحسين المتوكي كانت بقيد الحياة عام 1245هـ والتي خطت مصحفا شريفا ومؤلفين: “مطالع المسرات بجلاء دلائل الخيرات” لمحمد المهدي الفاسي و”مدارك التنزيل وحقائق التأويل” لعبد الله النسفي.
كما حرص سلاطين وملوك المغرب على خدمة العلم وأهله وذلك بشراء ونسخ مؤلفات العلماء والفقهاء وتحبيسها وتملكها على بعض خزانات المنطقة، وقد وقفنا أثناء اشتغالنا بفهرسة بعض مخطوطات خزانة “الإمام علي بتارودنت”[6] على نسخ في آخرها تحبيسا وتمليكات من لدن بعض السلاطين السعديين والعلويين لفائدة مكتبة الجامع الكبير بتارودانت.
وتجب الإشادة أيضا بمجهودات علماء وفقهاء سوس الذين أبلوا البلاء الحسن في الحفاظ على خزانات منطقتهم وتنمية أرصدتها من الوثائق، ويحضرنا في هذا المقام؛ البحث القيم الذي أنجزه المرحوم محمد المانوزي حول “مكتبات سوس”[7]
ولا يجب أن ننسى الدور الكبير الذي اضطلع به مؤرخ سوس العلامة محمد المختار السوسي في التحسيس بأهمية التراث ودوره في الحفاظ على الهوية الدينية والحضارية للإنسان المغربي، إلا أن هذه المجهودات لسوء الحظ اصطدمت في عهد الحماية بحملة شرسة أطلقها سماسرة المخطوطات بدعم ورعاية من بعض الضباط الاستعمارين أمثال “جوستنيار” Justinard “ودولاموط” De Lamot، ومن بين البحوث التي خلفها هؤلاء الضباط نذكر:
[” catalogue Des manuscrit” Arabes et Berbéres du Boux (AIX-Provence) ].
بعد هذا المدخل التاريخي الكرونولوجي عن الحركة العلمية بمنطقة سوس وما صاحبها من نشوء الخزائن العلمية، سنسعى من خلال هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على الواقع الذي تعيشه الأرصدة المخطوطة المتواجدة بهذه الخزائن التراثية، كما سنحاول التطرق إلى التحديات والإكراهات المتعلقة بطبيعة هذا التراث المخطوط ومستقل البحث التراثي والمشهد البيبليوغرافي في منطقة سوس بشكل عام…
يتبع في العدد القادم بحول الله تعالى
—————————-
1. المختار السوسي: خلال جزولة ، مطبعة المهدية ، تطوان ، 1/76 و 2/249.
2. القاضي عياض بن موسى السبتي، “ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك “، تحقيق على عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة الطبعة الأولى 2009 ج3/ ص592.
3. ابن الزيات التادلي، التشوف إلى رجال التصوف ، وأخبار أبي العباس السبتي ، تحقيق أحمد توفيق ، منشورات ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط ، الطبعة الأولى 1984 ص:89.
4. عبد الله بن محمد العياشي، الرحلة العياشية ، ط2 بالاوفيسيط وضع فهرسها ,محمد حجي مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، دار الطالب الرباط، 2/38.
5. ينظر : مقال بعنوان: “المؤسسات التعليمية الأولى بسوس وخصائص المدارس العتيقة بالمنطقة” ضمن أعمال ندوة أكادير الكبرى -الفكر والثقافة- 1990، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، ص: 115-116.
6. ينظر بحث لنيل شهادة الماستر شعبة اللغة العربية وآدابها كلية الاداب والعلوم الانسانية ظهر الهراز – فاس, البحث بعنوان :فهرسة المخطوطات الصوفية ببعض الخزائن العلمية بسوس، إنجاز الطالب محمد الهاطي، إشراف الأستاذ :عبد الرحيم العلمي، السنة الجامعية: 2008-2009.
7. المختار السوسي، المعسول، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، (د.ط) 1962 ، ج3/ ص331-333
أرسل تعليق