Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

ميثاق الرابطة |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

التحولات العميقة في بنية الأسر

في غمار التحولات العميقة في بنية الأسر والمجتمعات الإنسانية، لابد لنا من وقفة تأمل لنراجع بعض المفاهيم التي بدأت تجد طريقها إلى بعض العقول، ومنها ما استقر في الأذهان، رغم ما أحاط بها من التباس، نتيجة لضغوط الحياة اليومية، في هذا العصر العجيب اللاهث في تقدم زالت حواجز المسافات، ليس بين الأسر والشعوب أو القارات فحسب، بل بين الكواكب أيضا، والتقت حضارات العالم وتداخلت في لقاء بل في كثير من الأحيان في صراع عنيف غير ممهد، حتى لم يعد في مقدور أي أحد أن يحمي موروثه الثقافي والتراثي في عالم معاصر مجنون، وإزاء هذا الاكتساح من المعاني والمفاهيم التي لم تعرفها الإنسانية من قبل قال تعالى: “ولو اِتبع الحق أَهواءهم لفسدت السموات والاَرض ومن فيهن” [المومنون، 72].

لقد هبت رياح الأحزان تطارد الإنسان في كل أسرة، كل ذلك انعكاس موضوعي لما تموج به الساحة من مشاكل ومعوقات تطرح بإلحاح في واقعنا اليومي، فيظهر الإنسان المعاصر إنسانا متأزما وحائرا ومغلوبا على أمره، ضعيف الإرادة رغم ما يعتري الساحة الإنسانية من وسائل وإمكانيات ومكتشفات ظن أصحابها أنها تجلب السعادة، لكنها بادرت بإعلان إفلاسها الأخلاقي هذا الإفلاس أدى إلى نزيف فكري أبعد الإنسان عن تَلمس الطريق الأفضل للسعادة المبتغاة، وأول المرتبكين حضاريا أمة الإسلام التي عجزت عن تكوين إطار منهجي متكامل يفسر الواقع ويوضح بخطوط مسار ما ينتظره المستقبل؛ لأننا لا زلنا عالة على غيرنا دون مراعاة لخصوصية، وبما هو تعطيل أكيد لمسيرة الأمة نحو الاندماج مع المجموعة البشرية.

لقد طمسنا معالم كثير من تراثنا وسط هذا الارتباك والتشرذم بنظرة ملؤها التشاؤم مشحونة بعناصر السلبية، في إذكاء روح العراك بين الفكر ونفسه، وغاب عنا الدوران بين الواقع والفكر، وما دمنا لم ننخرط في الإيقاع الحضاري المعاصر لننطلق نحو المستقبل بانخراط لا يخلعنا من الماضي فنحن ضحية، وجهلنا تلك الضحية الأعجوبة التي لا تموت ولا تستطيع أن تحيى مع الأحياء، مما يعكس قدرا كبيرا من قصور وعينا، ويكشف بوضوح عن نسياننا لمشاكلنا التي لا يستطيع أحد أن يقول: من المسؤول؟ من هو ذلك الذي يخفي معايبنا ويصور الأحوال دوما بصورة وردية، ومن يستطيع الآن أن يفسر لنا هذا التناقض البئيس، وإلى من نعزو هاته الآثام والانحرافات والنقائص؟

والمشكلة ما يترتب على ذلك من أضرار، وتجاوزات سدت كل قنوات التواصل الطبيعية مما يحجب معرفة الواقع، وهو ما يدعو المسلمين أن يتحركوا للحاق بركب العلم والحضارة الذي سبقهم بعدما كانوا على رأسه وفي مقدمته، أن ينبذوا الخلافات الصغيرة والسقيمة، ويشمروا عن سواعدهم ليخوضوا معاركهم الكبرى من أجل إقامة مجتمع الحق والتقدم والعدل وبهذا يمكنهم أن يسهموا مع الأمم الكبرى على اختلاف أديانها ومذاهبها، في كل ما يرقى ماديا ومعنويا بالجنس البشري، فالمسلم الحق طبيب يأسو الجراح ويرحم الضعفاء، ويرشد الحيارى، وينطلق مع الضالين حتى يثوب بهم إلى طريق الله.

والأسرة المسلمة مطالبة أن ترصد الاتجاهات الفكرية الجديدة وإن كانت المِرآة التي تعكس الخلل الفادح، ولقد ازداد قتام المأساة الهائلة بوجود متسولين مندسين للتهويل يقفون ما ليس لهم به علم كي ينفثوا سمومهم لإحداث ثغرات في صرح الإسلام، ناس تغلب عليهم البداة، وفي الحقيقة هم لا سلف ولا خلف، وأدمغتهم تحتاج إلى تشكيل جديد..

نحن مطالبون اليوم بفهم الحياة واكتشاف طاقاتها وتسخيرها لخدمة الدين والدنيا ولمصلحة الناس أجمعين، إن آذاننا وعقولنا شبعت من ضجيج أصوات في مناخ أناخت عليه ظلمة حالكة منذ دهر داهر ولا سيما في هذا الزمن الطالح، فكفانا ما نحن فيه، نحن في حاجة إلى من يشخص أمراضنا ويقدم ما يؤمن أنه العلاج الشافي لأدوائنا.

وإن أمتنا إذا لم تتحمل الأسر مسؤولياتها ستظل ترسف في أغلال تقيدنا، ولن نتخلص منها في المستقبل، وسنبقى على ما نحن عليه من تخلف فكري وانحطاط اجتماعي، ولقد أشرت في مقال سابق أن تأخرنا وتدهورنا الفكري يرجع إلى تلك التلال المتراكمة من التقاليد البالية والمعتقدات الرثة، وكلنا مسؤول عما يقع قال تعالى: “وقفوهم إنهم مسؤولون” [الصافات، 24].

إن الجهل هو الغول الذي أكل ديننا ودنيانا، ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى دراسة مشكلة التخلف في بلاد الإسلام، وطريق مواجهة هذا التخلف، ولا مانع أن نستفيد من كل نبض إنساني متفاعل في غرب الأرض وشرقها؛ لأننا بحاجة إلى مرآة عاكسة نطلع من خلالها على مساوئنا، وهذا التناقض الفاضح الأسود حتى يتأتى لنا الخروج من بحر هذه الأوهام.

والأسرة المسلمة هي الأخرى كيان إنساني ككل أسرة إنسانية لها صبواتها ونؤابات الهوى، واضطراب الأيام وألوان المد والجزر في الحياة، فماذا يضيرنا من كل دسيسة تدس أو شبهة يرمى بها المصلحون إذا هي أخذت بالمنطق السديد، وبالصبر المهذب سترسم للحياة المعاصرة وجها جديدا رغم الطريق الطويل الشاق، المحفوف بضروب من الموانع والعراقيل من الأشواك والأدغال، والخروج من الماضي العفن ورواسبه ومخلفاته الخطيرة.

ويوم تستطيع الأسر أن تقهر اليأس الذي أصاب الأمة فإنها ستفتح آفاقا جديدة للمستقبل، لأنه آن الأوان لهذه الأسر لمداواة داء الأمة وجمع أمرها، وبث روح الحياة في أوصالها، لتغادر عهدا بائدا كانت محرومة فيه من كل حق؛ لأنه عار على الأمة أن يكتفي أبناؤها بالشكوى والتحسر على الأقدار بينما الشكوى يجب أن تكون من قلة العمل والعلم وتخلي الناس عن الأعمال الكبيرة، التي ترتقي بها وانتزاع حقها في الوجود وإن أمتنا لا يمكنها أن تعد في صفوف الأمم الراقية لمجرد أن يعرف أغلب أفرادها القراءة والكتابة وإنما على الأجيال الحالية والمستقبلية أن تجد في أوقاتها سعة ليصعدوا بعقولهم ومداركهم إلى حيث ارتقى الناس في الشرق الغرب، ونحن منتظرون هل يستطيع الجيل الحالي أن يعيد الأمة الضائعة إلى دورها المفقود كما رأيناه في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والمرابطين والموحدين وإلا أزاحها الآخرون من وجه الأرض ليكون العيش للأقوى.

والإبداع هو مفتاح التطور، والتطور بصفة خاصة إنما هو عملية تصحيح الخطأ والقدرة على التطلع إلى المستقبل، لكن الأغبياء تخلخلت اختياراتهم الطائشة فيبكون بكاء الأطفال المدللين ويحاولون إزالة هويتنا الإسلامية الإنسانية لنصنع مثلهم وإذا ما عارضنا يتهموننا بالتخلف والرجعية، ويعلم الله أننا دعاة بحث عن الحقيقة الضائعة، لانتشال الإنسانية من براثن الفقر والجهل والمرض، وكل ما يؤذي الأخلاق والارتقاء بالإنسان لفتح أبواب الارتقاء للاختيار الصحيح، وتعميق الوعي بالحياة الراقية، وتقديس الحق، وتحرير الإنسان من القيود، والاقتباس من التجارب الإنسانية الرائدة الناجحة، مع العلم أن الحياة واقع ورمز ومثل أعلى، والأسرة المسلمة خير من يحمل هموم الإنسان وعذاباته فوق كوكبنا الحزين، وإن الحياة الزاهية استحالت فوقه شعورا لغصة وعذاب.

وفي النهاية يبقى الألم هو المحرك للأسرة المسلمة وهي تشاهد على امتداد الأرض بشرا يعذبون ويتألمون، وتلك هي حيرة البشر والانسلاخ والتدني والهبوط السحيق عن المستوى الإنساني الذي عبر عنه القرآن الكريم بالإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى وفيه من الفساد في الأرض ما فيه قال تعالى: “واتل عليهم نبأ الذي ءَاتيناه ءَاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الاَرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث اَوْ تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بأياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون” [الاَعراف؛ 175-176].

وختاما فالمشكلة ليست في أن الأسر لم تقم بمهمة الإيقاظ ولكن الفرد المسلم المؤهل لم يقم بواجب النظر فينطلق بعقل كليل فيسيء ولا يحسن، وبذلك دخلنا في تيه الشتات الذي لم يورثنا إلا مزيدا من الإحباط والتلاوم، وخسرنا الآفاق والأعماق، ويا ليتنا توجهنا بوجهة الإسلام وجهة الخير، يوم انتصر دين الله بقيادة موحد الأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فأينعت كل أشجار الأسر وآتت أكلها وكانت أسوة لأقوام لا عداد لها من أبناء الإنسانية على اختلاف ألسنتها وألوانها، دخلوا في دين الله، وامتد ظل هذه الأسر شرقا وغربا وشع نور تعاليم دعوة الإسلام في أصقاع الدنيا وقامت للإسلام حكومات شملت بظلها وحضارتها الإنسانية بأسرها.

والله الموفق الهادي إلى الصواب.

أرسل تعليق