الإنسان المعاصر بين عولمة الاقتصاد وعولمة القيم.. (5)
3. التقليد والمحاكاة والتنافس الاستهلاكي: مما يؤدي إلى اندثار وتلاشي الخصوصيات الثقافية لأنماط الاستهلاك الخصوصية، ولعل أخطر الانعكاسات التي ستتركها العولمة هي تلك التي تتعلق بالانعكاسات النفسية والأخلاقية على نمط الاستهلاك داخل المجتمعات، ذلك أن حرية التجارة ستفتح المجال لدخول سلع تعبر عن قيم المجتمعات الغربية، وهذه السلع ستغير من أذواق الناس داخل المجتمعات، حيث سيسعى كثير من الناس إلى محاكاة الأجانب في نمط استهلاكهم، بل وسيسعون إلى تلبية حاجات غير حقيقية لا تنم عن صلة بقيم المجتمع الذي ينتمون إليه، فالمستهلك في ظل العولمة يرغب في الحصول على أقصى درجات الإشباع لحاجياته ورغباته، وبأقل كلفة ممكنة، حيث لن يفكر المستهلك بمصدر السلع، وإنما بدرجة إشباعها فقط، وهذا سيخلق لديه نزعة لحب الذات، مما يسهل عملية محاكاة الغير في نمط استهلاكهم، وفي ضوء حضارة التنميط التي تسعى العولمة لفرضها ستذوب الخصوصيات الحضارية للأمم.
إن زمن العولمة ليس إلا تجسيدا للمشاكل التي تثيرها الليبرالية المتوحشة فالسوق ستصبح واحدة، والحاجة واحدة، والنمط الاستهلاكي واحد فأين هوية الأمم؟ إن الفكر العولمي المتوفق –اقتصاديا– يرى نفسه النموذج الذي ينبغي أن يحتذى، وهو بذلك يغتال المفهوم الحضاري للفكر الإنساني القائم على أساس التنوع والتواصل والحوار، والتعايش والتسامح والمشاركة، ويقتلع المجتمعات من أنماط عيشهم، وبنيات حضارتهم، فهو يلحق إنتاج القيم بإنتاج الخيرات المادية[1].
4. ظهور مفهوم طرائق الاستهلاك الجديدة: وهو مفهوم يشير إلى الأشياء التي يملكها الرأسماليون والتي يعتبرونها ضرورية للمستهلكين من أجل أن يستهلكوا[2]، من ذلك مثلا المحلات الضخمة متعددة الأغراض وشبكات التسوق، وصور التبادل النقدي ونظم التحويلات النقدية أو للصرف من الأرصدة البنكية، وانتشار المطاعم التي تقدم الوجبات الرخيصة والسريعة، وثقافة شركات ماكدونالد. وبيشير جورج رتزر Ritzer في كتابة المكدونالدية والمجتمع بأن “الماكدونالدية” العملية التي بمقتضاها تنتشر المبادئ الخاصة بالطعام السريع، وتصبح سائدة في قطاعات أوسع من المجتمع الأمريكي وبقية أرجاء العالم، والمبادئ التي أشار إليها رتزر هي: الكفاءة والتنبؤ والمحاسبة والاهتمام بالجودة، والضبط باستخدام تقنيات غير بشرية. وبذلك تكون المكدونالدية صيغة ونموذجا للطعام يتم تصديره إلى مختلف دول العالم، من حيث نوعيته وطريقة تقديمه وطريقة شرائه وتغليفه. وتصدير هذه الصيغة لا ينفصل عن ما يحمله من قيم ورموز وأساليب تحدث خلخلة في العلاقات الإنسانية. وترتب عنهما نتائج وآثار منها: أنه يجرد العلاقة بين البائع والمشتري من أي عاطفة، فتختفي العلاقات الأصلية، وتستبدل بلغة العلامات والرمز السلوكي كأن يتخلص العميل من بقايا الأكل في سلة المهملات، أو يأخذ طعامه إلى طاولته أو يعبئ خزان سيارته بالبنزين بنفسه، وهكذا يصبح الإنسان ضحية لعقلانيته المفرطة: إذ لا تلبث حرية المستهلك وسيادته أن تنقلب إلى قيود سلوكية وقيمية تكبل حريته عبر الوسائل نفسها، ويصبح أسير القفص الحديدي الذي صنعه له صناع الثقافة الاستهلاكية وشكلوا قيامه..
يتبع في العدد المقبل…
—————————
1. جان بيير فارنيني، عولمة الثقافة، ص: 76.
الحبيب الجنحاني، العولمة من منظور عربي، ص: 63.
2. أحمد زايد: عولمة الحداثة، ص: 20، م، س.
أرسل تعليق