الإنسان المعاصر بين عولمة الاقتصاد وعولمة القيم.. (2)
خصائص القيم التي أنتجتها العولمة الاقتصادية
أوجدت العوملة وضعا جديدا ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، وإنما على مستوى القيم والثقافات والعادات وإلى كل ما يعبر عنه السلوك، وقد حملت العولمة الاقتصادية معها قيم المجتمعات التي أنتجتها، وعمل منظرو العولمة على نشرها مستغلين ما تتيحه الشبكة العنكبوتية من نشر للمعلومات، وقد تميزت قيم العولمة بما يلي:
1. أنها قيم مستمدة من جنس النظام الذي أنتجها وأفرزها
من المعلوم أن نظام العولمة يقوم على أساس منظومة من القيم تمتح من مرجعية مادية صرفة تعتمد قانون السوق، ويقاس كل شيء فيها بمنطق الربح والخسارة، فكل قيمة لا تحمل بعدا اقتصاديا يتم استبعادها، لأن منطق السوق المعولمة يرفض اعتبار وجود خصائص وطبائع سلوكية أوسيكولوجية محلية مما يذكر بمقولة الإنسان الكوني ذي البعد الواحد، وبذلك فإن هذا التوجه يقضي بميلاد نموذج جديد للاستهلاك وللتبادل له بعد كوني، ويتم من خلاله دمج المفاهيم والقيم التي يحملها مختلف المتدخلين في المنتوج.
وفي ظل التنافسية التي ارتكزت عليها العولمة، وبفعل التفوق التكنولوجي تم تسخير آليات متنوعة ترتب عنها نوعا من التجانس في الطلب، ذلك أن المد العولمي أدى إلى إدخال تغيير كمي على الأسواق من خلال اتساع البعد الجغرافي للمعاملات الاقتصادية، بل تعدى مفعولها ذلك على شكل بروز أنواع جديدة للأسواق تتجاوز البنيات الوطنية والدولية وتتعايش وتتمفصل معها وفي نفس الوقت، تدفع إلى انبثاق أشكال تنظيمية في ميادين الإنتاج وأساليب التسويق، وهكذا تمت عولمة الطلب، وأصبح رهين قوالب معينة تحت مسمى العصرنة والجودة والرفاه.. وتجلى هذا في تشابه الحاجيات، وتشابه الأذواق وتجانس في الطلب، فالمنتوجات تخضع لنفس الوصفات والمعايير، منتوجات منمطة رسخت الدعاية الاشهارية وجودها داخل المجتمعات بفعل سيادة ثقافة الصورة ووسائل الاتصال الحديثة، مما يوحي بتلاشي أنماط الاستهلاك الخصوصية في ضوء حضارة التنميط التي تسعى العولمة لفرضها[1].
إن القيم التي أنتجتها العولمة تحمل بصمات المكان والزمان أي الحضارة التي أنتجتها، إلا أن أصحابها أرادوا لها أن تكون قيما كونية طوعا أوكرها – تتجاوز الزمان والمكان؛ لأن الهدف هو تدجين المجتمعات، وجعل الهامش يفكر بمقولات المركز، وتوحيد القيم حول القضايا التي تجتازها المجتمعات مثل قضية المرأة والرغبة وأنماط الاستهلاك في الذوق والمأكل والملبس بل وتوحيد النظر إلى الذات وإلى الآخر، وإلى القيم الكونية كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان[2]. إنها قيم النموذج المنتصر الذي أراد للشعوب والأمم أن تكون عقولا مستهلكة، وفرض نمط وحيد من القيم مما يتناقض ومناداة البلدان المتقدمة بالتعددية وقبول الرأي الآخر وحرية الاعتقاد، والتعبير وتجدير الديمقراطية الحقيقية لا ديمقراطية الواجهة، إن العولمة بإقصائها للآخر أرادت تأسيس نظام احتوائي لتوجيه السلوكات والعادات والأخلاق وكل القيم، فمنظرو قيم العولمة يرون أن طرفي العلاقة بين الديمقراطية والسوق مثلا متلازمة، ذلك أن الديمقراطية تتطلب السوق، كما أن السوق يتطلب الديمقراطية، ولا يخفى أن الديمقراطية التي يجري الدفاع عنها هي تلك التي تدافع عن المصالح المتفوقين اقتصاديا وتتجاهل البعد الاجتماعي وتضر بالعمال، وهو ما تراه في الدعوة للتخفيض المستمر للأجور وزيادة ساعات العمل، وخفض المساعدات والمنح الحكومية تحت حجة تهيئة الشعوب لمواجهة سوق المنافسة الدولية وتحت دعوى أن السوق ينظم نفسه بنفسه، ولعل هذا يظهر أكثر فيما سخر من آليات متنوعة لتعبير قيم العولمة كما تعبر السلع والخدمات: إننا أمام قيم عابرة للحدود والقارات حيث ثمة تشابه في الحاجيات والأذواق والأخيلة..
يتبع في العدد المقبل..
—————————————————-
1. فتح الله ولعلو: العولمة ومتطلبات التقدم الشامل، ص: 184، مطبوعات أكاديمية الملكة المغربية مرجع سابق.
2. مانع سعيد العتيبة، العوربة والعولمة: قراءة المستقبل ومستقبل القراءة، ص:52، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، مرجع سابق.
أرسل تعليق