استئناف السول في الاجتهاد المأمول
أكرم الإسلام المجتهد في كل زمان ومكان وأنزله منزلة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه ميزة تشريف وتكريم لعلماء الأمة، فأعملوا بدورهم الوسع في أن تبقى الشريعة الإسلامية صالحة لكل العصور، وهذا إدراكا منهم ـ كما عبر عن ذلك الإمام ابن رشد في مقدمة كتابه بداية المجتهد ـ أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال متناهية، ومحال أن يتقابل ما لا يتناهى بما يتناهى.
ولقد استقر الوعي بتجديد الاجتهاد وإحياء دوره في مواكبته للقضايا المعاصرة والمستجدة في ذاكرة الأمة الإسلامية فترة بعد فترة حتى عصرنا هذا، بل أضحى من الشروط الأساسية التي ينادي بها الفكر الإسلامي اليوم لإخراج المسلمين مما هم فيه من أزمة حضارية مستعصية.
وهكذا أصبحت أبواب الاجتهاد تفتح بابا بابا، وأضحت الدعوة إلى الزيادة من دائرة قطر باب الاجتهاد تتسع بين صفوف العلماء المعاصرين، فأعقبتها استجابة واسعة في المؤتمرات العلمية واللقاءات الدراسية والتآليف الحديثة التي بدأت تعيد إحياء العملية المعرفية الاجتهادية، التي تعتبر انطلاقة تصحيحية للبحث عن مشروع حضاري قادر على إسعاف الأمة الإسلامية وتحريرها من قيودها لتعود إلى مرابض عزها وتالد مجدها.
والواضح من خلال إمعان النظر في جل التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية في وقتنا الراهن أنه يمكن إجمال مجالات استئناف الاجتهاد في خمس قضايا مهمة:
• أولها: القضايا المعرفية، وتتمثل في ضرورة الشروع في نقد العلوم الإسلامية وإعادة قراءة التراث المعرفي الذي أنتجه علماء الأمة؛ لأن هذا يعتبر مهمة أساسية ستسهم بشكل كبير في بلورة التصور وتجديد النظر والاجتهاد في كثير من القضايا العلمية. ويمكن الجزم بأن نظرية نقد العلوم الإسلامية هي التي جعلتها علوما تشق عنان السماء، وذلك حينما صاحبتها منذ نشأتها بمنهج منظم يدرس قضايا العلم ومسائله والنتائج المحصلة عليها دراسة نقدية تقويمية جعلتها تجيب عن كثير من الإشكالات، وتثري المكتبة الإسلامية إثراء لم تعرف له البشرية قبل ذلك التاريخ نظيرا.
وبرجوعنا إلى الإنتاج المعرفي للفكر الإسلامي نجد أن علماء المسلمين صنفوا في نقد العلوم تصانيف كثيرة، منها كتاب التمهيد للإمام الباقلاني الذي قدم له بباب “العلم وأقسامه وطرقه”، والقاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه: “النظر والمعارف”، والإمام الغزالي الذي ألف عدة كتب في الموضوع منها كتابه “إحياء علوم الدين” و”المنقذ من الضلال”، والإمام ابن حزم الذي عرف بنقده في كتبه المشهورة “المحلى” و”إحكام الأحكام” وغيرها، والإمام الفخر الرازي في كتابه “المحصول”، والإمام الإيجي في كتابه “المواقف”.. بل يمكن الحديث عن ظهور مدارس نقدية، كمدرسة السيوطي، ومدرسة ابن خلدون، ومدرسة ابن تيمية، ومدرسة ابن رشد، ومدرسة الشاطبي، وغيرها من المدارس التي كان لها الفضل الكبير في تفعيل أدوات النظر الاجتهادي.
• ثانيها: القضايا الاجتماعية، وتتوزع بين الإشكالات التي يطرحها الإعلام، وقانون العمل والعمال والنقابات، ونظام العقار والسكن، وقضايا حقوق الإنسان، والمشاكل الطبية من قبيل الاستنساخ وزرع الأعضاء؛ وغير هذا من الأمور الشائكة التي تملأ ساحة المجتمع الإسلامي..
• ثالثها: قضايا الفكر السياسي استيعابا وتأصيلا وتكييفا، وتشمل مسألة الشورى والانتخابات والأحزاب والديمقراطية، والسياسة الداخلية والخارجية، والعلاقات الدولية، والسياسة التشريعية، وغيرها..
• رابعها: القضايا الاقتصادية، وتضم المعاملات المالية، والمصارف والأبناك، وكذا السياسة النقدية، والتجارة الداخلية والخارجية، والأسهم والبورصات، والاعتمادات المالية…
• خامسها: القضايا الثقافية والتربوية والفكرية، وتعالج أمور العولمة والحداثة والتغريب، والمناهج التربوية، وقضية الهوية والأصالة والمعاصرة، ومسألة الفنون الجميلة، وكذا وسائل التعبير من موسيقى ومسرح وسينما، إلى غير ذلك من الأمور التي تثير نقاشا واسعا في أوساط المثقفين والمفكرين..
وقد بُذلت مجهودات كبيرة لمعالجة جل هذه القضايا، سواء عن طريق التأليف والكتابة، أو عبر ندوات أو مؤتمرات أو لقاءات بين المهتمين والمتخصصين والباحثين، الذين أدركوا المشقة الكبيرة والحرج الشديد الذي سيطرحه التفكير في تجاهل هذه الأمور المستعصية، أو تأجيل النظر فيها..! وهذا العمل العلمي لا زال غضا طريا يحتاج إلى مزيد من الجهد والوقت، كما يحتاج إلى توجيه منهجي يصاحبه منذ بداياته الأولى التي نعيشها اليوم إلى أن يستوي قائما تنظيرا وممارسة.
-
لا يجوز خلو الزمان من مجتهد قائم للّه بحجته يبين للناس ما نزل إليهم خلافاً لمن قال بإغلاق باب الاجتهاد، ويدل للقول الحق قوله فيها: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة" فإنه فيها أخبر في هذا الحديث باستمرار وجود القائمين بالحق إلى انتهاء الدنيا…
التعليقات