أحمد بن عاشر السلوي
ظلت حاضرة سلا طوال تاريخها الحافل مجمعا للعلم والصلاح، ومجالا لخبرات إنسانية ضمت العبقرية المغربية والتراث الأندلسي الذي ارتبط بمنطقة عُدوتي الرباط وسلا بمعطياته الفكرية والحضارية، وقد جمعت هذه المدينة المباركة بين رقة الحضارة وتأثير ثقافة البادية والطبيعة، وما يرتبط بها من بساطة فكانت الخلاصة توفير جو مناسب للناسكين والزهاد والباحثين عن حرم آمن من أجل الترقي في مقامات العرفان..
ونحن نعرف أن بعض مشاهير العلماء والصلحاء من أهل الأندلس، اختاروا مدينة سلا كخلوة للتأمل والترقي أشهرهم الكاتب الخطير لسان الدين بن الخطيب، ومعلوم أن الشيخ الأكبر أبو بكر ابن عربي الحاتمي كان قد أخذ بعض علمه بمدينة سلا عن أحد علمائها الكبار، وهو أبو أحمد السلوي الذي صحب أبا مدين الغوث ثمان عشرة سنة كما في جامع كرامات الأولياء للنبهاني، ج: 1، ص: 420. لكن يبقى سيدي أحمد بن عاشر السلوي، أبرز شخصية صوفية في تاريخ سلا لما له من ارتباط بأرض سلا التي احتضنته حيا وميتا، وبقي ضريحه معلما دينيا واجتماعيا كبيرا وحاضرا بقوة في الذاكرة الجماعية لأهل سلا، فمن يكون هذا الرجل الفاضل الذي طبع بشخصيته وتأثيره العلمي والتربوي أجيالا عديدة داخل وخارج سلا؟
ولد أحمد بن عاشر “بشمنية” من بلاد الأندلس، وبها نشأ وحفظ القرآن، وقرأ العلم التأسيسي، ثم انتقل منها إلى الجزيرة الخضراء، وأقام بها زمنا مشتغلا بتعليم كتاب الله تعالى، فلقي بها الأكابر من أهل العلم والمقامات، منهم الشيخ أبو سرحان مسعود الأبله، ثم رحل للحج والزيارة، ثم رجع إلى المغرب، ودخل مدينة فاس، وأقام بها مدة، ثم رحل إلى مكناسة الزيتون، واستوطنها مدة.. وفي رواية مختلفة في بعض التفاصيل أنه دخل إلى المغرب صحبة عائلته أوائل القرن الثامن الهجري في عهد الملك أبي عنان المريني، فرحل إلى فاس أولا، ثم توجه إلى الحجاز لأداء مناسك الحج، وبعد رجوعه من مكة استوطن مكناسة الزيتون، ثم رحل منها وسكن مدينة سلا بشكل نهائي سنة 1350م.
وقد حصل بن عاشر السلوي أثناء سفره للحجاز على علوم كثيرة، والتقى بمشايخ وأئمة أخذ عنهم، وتعمق في علم الطب وعلم التوحيد، واشتهر سيدي بن عاشر بالعلم النافع والصلاح، وكان يعيش من عمل يده بنسخ الكتب، وكان من الأطباء المشهورين بالمغرب وكان له اهتمام كبير بالأمراض النفسية. من شيوخه الكبار العالم الصوفي سيدي أبي عبد الله اليابوري، دفين شاطئ الرباط الذي كان بدوره قد هاجر من يابرة بالأندلس واستوطن الرباط، وأسس زاوية بخلوة شالة حيث اجتمع حوله الطلبة على رأسهم صاحبنا ابن عاشر والعالم سيدي مخلوف دفين الربوة المطلة على وادي أبي رقراق عند نهاية السور الأندلسي.
لما انتقل أحمد ابن عاشر إلى حاضرة سلا، نزل في رباط الفتح بزاوية الشيخ العالم أبي عبد الله اليابوري وكان رجلا معروف القدر لكونه ساهم في إحياء العلم بالرباط، بعد فترة ركود تلت ضعف الدولة الموحدية بعد معركة العِقاب حتى استلام السلطة من طرف بني مرين، وأقام سيدي بن عاشر مع شيخه اليابوري على بر واستحسان، وكان الشيخ يسميه “الشاب الأسعد الصالح”، وكان يأمر بإيناسه والنظر في مصالحه، وأسكنه خلوة في زاوية شالة، وحفزه لإقراء الأولاد القرآن، لكونه كان يختار ألا يأكل إلا من كسبه، كما اكتسب رحمه الله بنسخ الكتب وبيعها خصوصا “عمدة الأحكام”، وكان معجبا بها مؤثرا لها ولحفظها وفهمها.. وكان اشتغال بن عاشر بالكسب من عمل اليد بحثا عن الاستقلالية، وهو ما دفع فيما بعد السلطان أبا عنان المريني للبحث عنه والرغبة في زيارته في قصة مشهورة..
بعد وفاة الشيخ اليابوري، انتقل أحمد بن عاشر لعدوة سلا، فنزل منها بزاوية الشيخ أبي زكرياء الكائنة بقرب الجامع الأعظم، وبدار المقدم عليها الشيخ أبي عبد الله محمد بن عيسى، تلميذ الشيخ أبي زكرياء المذكور..
يقول عبد الله التليدي في كتابه: “المطرب في مشاهير أولياء المغرب” عن سيدي أحمد بن عاشر الأندلسي، نزيل سلا ودفينها، المنقطع النظير في الزهد والورع، كان من كبار العلماء العاملين منقطعا عن الدنيا وأهلها كثير النفور من الأمراء ورجال الدولة، لا يكاد يواجه أحدا منهم قصده مرة السلطان أبو عنان يريد زيارته فوقف ببابه طويلا فلم يأذن له وانصرف راجعا ثم عاد إليه مرارا فلم يصل إليه.
ترجمه كثير من العلماء وأطال في ذلك أحمد بابا التمبوكتي في “نيل الابتهاج بتطريز الديباج”، وكذا ابن جعفر الكتاني في “سلوة الأنفاس”، وكان يقول فيه تلميذه ابن عباد: “لو فتش اليوم على مثله بالفتيلة والقنديل لم يوجد”، وذكره العلامة ابن الخطيب في “نفاضة الجراب”، وأثنى عليه فقال: “لقيت من أولياء الله بسلا الولي الزاهد الكبير المنقطع العزيز فرارا عن زهرة الدنيا وهربا عنها واقفا في الورع وشهرة بالكشف وإجابة الدعوة وظهور الكرامة أبو العباس ابن عاشر”، وقال الإمام ابن عرفة: “ما أدركت مبرزا في زماننا هذا إلا أبا الحسن المنتصر وأحمد بن عاشر نزيل سلا”.
ويذكر الأستاذ التليدي في “المطرب في مشاهير أولياء المغرب”، أن طريقة الإمام بن عاشر “كانت عملا على ما في “الإحياء” للإمام للغزالي بجد واجتهاد، وكان يقطع أكثر أوقاته بين القبور في عبادة الله تعالى، كان قد اعتزل كل الأوساط لا يجالس إلا بعض الأفراد من أصحابه، ولا يأكل إلا من كسب يده وما يبيعه مما ينسخه من عمدة الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي كما مر معنا.
ونستفيد من كتاب “السلسل العذب الأحلى في صلحاء فاس ومكناسة وسلا”، لمحمد الحضرمي الذي كتبه في القرن الثامن الهجري مدى الحضور القوي للصوفية في القرن الثامن، وعن الروح التي كانوا متشبعين بها، فقد ترجم للشيخ أحمد ابن عاشر، كما ترجم لفئة من تلاميذه كانوا نموذجاً لمثالية كبيرة، لا يعبأون بالكرامات والخوارق ولا يتطلعون إلى الأغراض الدنيوية، وقد قـال سيدي أحمد ابن عاشر: كما في “السلسل العذب” للحضرمي، “غاية الكرامة الاستقامة”، وكان يقول: “الغش أصل كل خلق سوء”، ويقول: “لا ينبغي لأحد أن يعمل بجهل، وإنما العمل بعد العلم كما استفدناه من مقال عبد العزيز بن عبد الله حول “مصادر التصوف المغربي”، مجلة التاريخ العربي، عدد: 22.
من تلاميذ ابن عاشر سيدي علي بن أيوب الرباطي الذي كان يقول: “من ظن الحق في غير القرآن، ضل ومن طلب الوصول على غير طريق السنة، لم يصل أبداً، ومن تلاميذه أيضاً محمد الحلفاوي الإشبيلي الذي استوطن فاساً وأخذ التصوف عن أبي يعقوب الزيات، ومنهم ابن أبي مدين العثماني الذي كان يقول: “روض نفسك بالآداب الشرعية تبلغك للحضرة القدسية”، وابن عباد صاحب “الرسائل الكبرى والصغرى”، ولعل أصحاب هذه التراجم قد تأثروا كما تأثر خلفهم بالمصنفات الأندلسية التي أشار ابن بشكوال في”الصلة” إلى بعضها، ككتاب “كرامات الصالحين” لعبد الرحمن بن فطيس في ثلاثين جزءاً، وكتاب “الحاوي الجامع بين التوحيد والتصوف والفتاوي”، للمعسكري صاحب “السحابة فيمن دخل المغرب من الصحابة”، وكتاب “الإفصاح عمن عرف بالأندلس بالصلاح” لأبي البركات البلفيقي، و”أنوار الأفكار فيمن دخل جزيرة الأندلس من الزهاد والأبرار” لابن الصقر المتوفى عام 559هـ، عبد العزيز بن عبد الله، مصادر التصوف المغربي، التاريخ العربي، عدد: 22.
قلنا أن صاحبنا بن عاشر اشتغل باكتسابه من نسخ كتاب “العمدة” في الحديث، وكان معجبا به، مؤثرا لحفظه وفهمه، وربما أقرأه تفهما لبعض أصحابه، ينسخ منه ثلاث نسخ في السنة غالبا، وكان يبيعه ممن يعرف طيب كسبه، ولا يأخذ إلا قيمته، ومن ذلك توفر له ما اشترى به داره التي توفي بها، وفي هذه الدار اشتهر أمره، وانتشر في الناس ذكره، واجتمع إليه الأصحاب، وانضاف إليه المريدون، وكان يزور إخوانه من الصالحين ويأنس برؤيتهم، فصار بعد سكناه بهذه الدار قليلا ما يظهر، وناء ما يبدو للعيون ويبْصَر.
من تلاميذ أحمد بن عاشر السلوي الكبار ابن عباد الرندي الصوفي الأندلسي المغربي المولود في مدينة رُندة قرب قرطبة سنة 733 هجرية / سنة 1371م.
وسيرتحل مثله مثل شيخه ابن عاشر من الأندلس إلى المغرب، وقد تلقى العلم في فاس وتلمسان وسلا وطنجة، وأخذ في طريق الصوفية والمباحثة على الأسرار الإلهية حتى أشير إليه بذلك، وتكلم في علم الأحوال والمقامات والعلل والآفات، كما قال المقري: “نفح الطيب”، ج: 3، ص: 175، طبعة القاهرة.
وقد أخذ التصوف خصوصاً على عمدته الشيخ الفاضل أحمد بن عاشر، وأقام معه ومع أصحابه في مدينة سلا سنين عديدة، “لوجدان السلامة معهم” على حد تعبيره، “المقري”، “نفح الطيب”، ج: 3، ص: 176، كما لقي في طنجة الشيخ الصوفي أبا مروان عبد الملك ولازمه كثيراً، وقرأ خصوصاً كتاب “قوت القلوب” لأبي طالب المكي، وهو إلى جانب “إحياء علوم الدين” للغزالي من أعظم كتب التصوف في تاريخ الإسلام، وبعد أن أقام في سلا سنين عديدة انتقل إلى مدينة فاس بعد وفاة أستاذه أحمد بن عاشر، وعين خطيباً بجامع القرويين في مدينة فاس، وبقي في هذا المنصب خمسة عشر سنة خطيباً، إلى أن توفاه الله في فاس رابع رجب سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة سنة 1389م، والشيخ أبو عبد الله محمد بن عباد هو شارح “الحكم العطائية” كما هو معلوم.
وكان ابن عباد، كما قال عنه الذين ترجموا له: “أمة وحده”، المقري، ج: 3، ص: 178. حسن السمت طويل الصمت، “وكان الغالب عليه الحياء من الله تعالى والتنزل بين يدي عظمته، وينزل نفسه منزلة أقل الحشرات، لا يرى لنفسه مزية على مخلوق لما غلب عليه من هيبة الجلال وعظمة الملك وشهود المنة، نظّاراً إلى جميع عباد الله تعالى بعين الرحمة والشفقة والنصيحة العامة، مع توفية المراتب حقها والوقوف مع الحدود الشرعية، نفح الطيب ج: 3، ص: 187، وأريد هنا أن أعلق على ما قاله المقري عن بن عباد تلميذ بن عاشر من أنه كان ينزل نفسه منزلة أقل من الحشرات، وأنه لم يكن يرى لنفسه مزية على مخلوق أن ظاهر هذا الكلام قفز على معطى معتبر في المرجعية الإسلامية هو تكريم الإنسان وتفضيله على سائر المخلوقات، وهذا التكريم الإنساني لا شك متحقق ووجودي، لكن ضمن سياق كوني استخلافي يجعل الكرامة والأفضلية مقرونة بفهم جدلي عميق لعلاقة الدين بالمنظومة الكونية عبر انخراط الإنسان فلسفيا في قضية الوجود، لكن على المستوى العملي ضمن علاقة الإنسان بالطبيعة يحضر هذا المفهوم الذي لمسناه عند بن عباد الرندي المتمثل في اعتبار الكائنات الأخرى كشريك بعيدا عن منطق التفاضل. وأعتقد أن هذا التمييز بين مستويي النظر هذين في التعامل مع الكائنات الحية الأمم أمثالنا مسألة جديرة بالتأمل ضمن فلسفة الطبيعة، من جهة أخرى تمدنا هذه الترجمة بمعلومات مفيدة عن المنهج الصوفي الذي كان متبعا في مدرسة بن عاشر وقبله في المدرسة اليابورية، وقد ألف ابن عباد، تلميذ بن عاشر شرحه الشهير لمتن كتاب “الحكم العطائية”، لأحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندري المتوفى سنة 709هـ، وهو كتاب نفيس يتضمن عصارة علم التصوف.
قال الزركلي في “الأعلام” عن ابن عباد الرندي أنه كان متصوفا باحثا، من أهل رندة بالأندلس، تنقل في حواضر المغرب، واستقر خطيباً للقرويين بفاس، وله كتب، منها “الرسائل الكبرى” وهو كتاب في التوحيد والتصوف والتأويل، وكتاب “غيث المواهب العلية بشرح الحكم العطائية” الذي مر معنا، ويعرف أيضا بشرح النفزي على متن السكندري، وله كتاب “كفاية المحتاج” وكتاب، “الرسائل الصغرى” و”فتح الطرفة” و”شرح أسماء الله الحسنى”.
قال العارف بن عباد في “رسائله” عن شيخه الإمام بن عاشر: “كنت قديما خرجت يوم مولده صائما إلى ساحل البحر، فوجدت هناك السيد الحاج ابن عاشر رحمه الله تعالى، وجماعة من أصحابه معهم طعام يأكلونه فأرادوا مني الأكل فقلت: إني صائم، فنظر إلي السيد الحاج نظرة منكرة وقال لي: هذا يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصوم كالعيد فتأملت مقالته فوجدته حقا، وكأنه أيقظني من النوم، وهذا معنى آخر من معاني التعامل مع مولد الرسول الكريم فتأمل!”.
من شيوخ ابن عباد أبو عبد الله الشريف التلمساني صاحب “مفتاح الوصول في علم الأصول”، وأبو مهدي المصمودي، وأبو محمد الفشتالي، ولا شك أن هذه التراجم تمدنا بمعطيات ثمينة حول الحياة الفكرية والثقافية على عهد بن عاشر وأصحابه، وهذا مبحث مفيد في حقل الدراسات التاريخية لازال يحتاج إلى مزيد تنقيب وتعمق.
ومن الذين ترجموا لابن عاشر السلوي أحمد المقري في “نفح الطيب”، وأحمد الناصري في “الاستقصا” والنبهاني في “جامع كرامات الأولياء”، والزركلي في الأعلام، والحضرمي في “السلسل العذب” مصدرا به وبن قنفذ في “أنس الفقير وعز الحقير”، وابن القاضي في “جذوة الاقتباس”.
وأود أن أختم هذه المقالة بإشارة جمالية لابن عاشر في محبة سلا وأهلها، يدل على ذلك ما نسب إليه من شعر يعتبر في نظري من أروع ما قيل في سلا، يقول:
سلا كــل قلبٍ غيــر قلبي مــــا سلا أيسلــــو بفــــاس والأحبـةُ في سلا
بهــا خيمــــوا والقلبُ خيَّـــم عندهم فأجْـــرَوا دموعـي مُرسلا ومُسلسلا
توفي الإمام بن عاشر رحمه الله، في رجب سنة أربع على ما في “السلسل العذب” للحضرمي، أو خمس، على ما في “أنس الفقير” لابن قنفذ، وستين وسبعمائة، ودفن بداخل سلا، بالموضع المعروف وراء المسجد الجامع، وقبره مشهور مزار إلى الآن، وقد كان دفن بمقربة من ذلك الموضع الذي دفن فيه جماعة من أصحابه ممن مات قبله رحمهم الله أجمعين، وزيارته مستمرة إلى اليوم خصوصا من أصحاب الأمراض والعاهات، وتلك كانت حالة الشيخ بن عاشر في حياته، رحمة الله عليه.
والله الموفق للخير والمعين عليه.
-
مقال جميل
وجهدا مشكور ودمتم متميزين
إن شاء الله -
بارك الله فيك يا أستاذ ودمت ذخرا لطلبة التاريخ.
رجاءا أريد تعريف لصاحب مخطوط "الجواهرالمختارة مما وقفت عليه من النوازل في جبال غمارة"
وهل له نسخ بالجزائر أم لا.
أكون ممتنا جدا لتلبية طلبي.
شكرا
التعليقات